ملهم جزماتي

صرح محافظ مصرف سوريا المركزي، السيد عبد القادر حصرية، لصحيفة “فاينيشيال تايمز” أن البلاد تتجه نحو تطبيق نظام التعويم المدار لعملتها المحلية، في خطوة تهدف إلى الحد من تدخل الصرافين في سوق الصرف، وتعزيز جهود توحيد الأسعار النقدية.

وأوضح حصرية أن الخطة الجديدة تستهدف تمرير جميع عمليات التجارة الخارجية عبر القطاع المصرفي الرسمي، بما يؤدي إلى إلغاء الدور الذي ظل يلعبه الصرافون، الذين كانوا يتقاضون نحو 40 سنتًا عن كل دولار يدخل إلى سوريا على حد تعبيره.

ويعرف التعويم المدار (Managed Float) بأنه أحد أنظمة تحديد سعر الصرف، ويمثل حلًا وسطًا بين نظام سعر الصرف الثابت ونظام سعر الصرف المرن (الحر). في هذا النظام، يُسمح لسعر صرف العملة المحلية بالتقلب استجابة لقوى العرض والطلب على العملة المحلية في السوق، تمامًا كما هو الحال في نظام التعويم الحر. ومع ذلك، يحتفظ البنك المركزي بحق التدخل في السوق بشكل دوري أو عند الضرورة، بهدف التأثير على سعر الصرف وتوجيهه نحو مستوى معين أو تخفيف حدة التقلبات غير المرغوبة. هذا التدخل يمكن أن يكون من خلال بيع أو شراء العملات الأجنبية. وبالتالي فإن توافر الاحتياطيات الأجنبية تزيد في قدرة البنك المركزي على التدخل في السوق. كلما كانت الاحتياطيات أكبر وأكثر تنوعًا، زادت قدرة البنك المركزي على التدخل بفعالية لدعم العملة أو كبح جماح تقلباتها دون استنزاف موارده. تعتبر هذه الاحتياطيات بمثابة خط الدفاع الأول ضد الصدمات الخارجية.

عادة يتم اللجوء لنظام التعويم المدار لتحقيق التوازن بين مرونة سعر الصرف واستقراره. فمن ناحية، تسمح المرونة للعملة بالتكيف مع التغيرات الاقتصادية الداخلية والخارجية، مما يساعد على امتصاص الصدمات وتحسين القدرة التنافسية للصادرات. ومن ناحية أخرى، يمنح البنك المركزي القدرة على التدخل في السوق عكس التعويم الحر للحد من التقلبات المفرطة التي قد تضر بالاستقرار الاقتصادي، وتؤثر سلبًا على التجارة والاستثمار، وتزيد من حالة عدم اليقين. ولكن فعالية هذا النظام تعتمد بشكل أساسي على قدرة البنك المركزي في إدارة تدخلاته بفعالية، وتوفر احتياطيات كافية من العملات الأجنبية، بالإضافة إلى وجود سياسات نقدية ومالية متسقة وشفافة تدعم أهداف الاستقرار الاقتصادي. كما يتطلب بيئة اقتصادية مستقرة نسبيًا لكي يؤتي ثماره، فهل هذه الشروط متوفرة واقعيًا في سوريا!

“إن الاقتصاد الذي يعاني من اختلالات هيكلية أو صدمات متكررة سيكون عرضة لتقلبات حادة في سعر الصرف، مما يجعل إدارة التعويم المدار أمرًا صعبًا للغاية”.

يتطلب نجاح التعويم المدار وجود نظام مالي قوي وشفاف، بما في ذلك بنوك ومؤسسات مالية قادرة على التعامل مع تقلبات سعر الصرف وإدارة المخاطر. كما يجب أن تكون هناك رقابة فعالة على القطاع المالي لضمان استقراره ومنع الممارسات غير السليمة. وهذا يقودنا إلى ضرورة اجراء إصلاحات هيكلية مستمرة لتحسين بيئة الأعمال، وزيادة الإنتاجية، وتعزيز التنافسية في الاقتصاد. هذه الإصلاحات تدعم قوة الاقتصاد على المدى الطويل وتجعله أكثر قدرة على التكيف مع التغيرات في سعر الصرف.

كما تلعب ثقة المستثمرين والمواطنين في السياسات الاقتصادية دورًا حاسمًا. إذا كانت هناك ثقة في قدرة البنك المركزي والحكومة على إدارة الاقتصاد بفعالية، بناء الثقة يتطلب الشفافية والمصداقية والالتزام بالوعود الاقتصادية التي تصدر عن المسؤولين في الحكومة السورية، كأن تصرف الرواتب والمنح والزيادات التي أعلن عنها دون تأخير، وتوفير السيولة النقدية اللازمة في البنوك في حال أراد المودعين سحبها.

الأدوات المتبعة في سياسة التعويم المدار

كما ذكرنا سابقًا، فإن نجاح سياسة التعويم المدار لأي عملة محلية يرتبط بشكل مباشر على قدرة البنك المركزي في التدخل الفعال بالسوق لتحقيق الأهداف الاقتصادية والنقدية التي وضعها سابقًا بشكل واضح وشفاف، وبالتالي لابد من وجود أدوات نقدية واقتصادية يستطيع المركزي استخدامها لضبط السوق النقدي في حال حدوث اختلالات كبيرة في أسعار صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، وأهم هذه الأدوات هي:

  1. عمليات السوق المفتوحة (Open Market Operations): تُعد هذه الأداة الأكثر شيوعًا وفعالية في إدارة سعر الصرف في ظل نظام التعويم المدار. يقوم البنك المركزي ببيع وشراء العملات الأجنبية في السوق المفتوحة. فعندما يرغب البنك المركزي في دعم قيمة العملة المحلية (الليرة السورية في هذه الحالة)، فإنه يبيع العملات الأجنبية (مثل الدولار الأمريكي) ويسحب العملة المحلية من التداول، مما يزيد من الطلب على الليرة ويرفع قيمتها. وعلى العكس، إذا أراد البنك المركزي خفض قيمة العملة المحلية، فإنه يشتري العملات الأجنبية ويضخ العملة المحلية في السوق.
  2. تغيير أسعار الفائدة (Interest Rate Adjustments): يمكن للبنك المركزي استخدام أسعار الفائدة كأداة غير مباشرة للتأثير على سعر الصرف. رفع أسعار الفائدة يجعل الاحتفاظ بالعملة المحلية أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب، مما يزيد من تدفقات رأس المال الأجنبي ويزيد الطلب على العملة المحلية، وبالتالي يدعم قيمتها. وعلى العكس، خفض أسعار الفائدة قد يؤدي إلى خروج رؤوس الأموال وانخفاض قيمة العملة.
  3. الضوابط الرأسمالية (Capital Controls): في بعض الحالات، خاصة في الاقتصادات الناشئة أو التي تمر بظروف استثنائية، قد يلجأ البنك المركزي إلى فرض ضوابط على تدفقات رأس المال. هذه الضوابط يمكن أن تشمل قيودًا على دخول أو خروج الأموال من وإلى البلاد، بهدف الحد من التقلبات الحادة في سعر الصرف الناتجة عن المضاربات أو هروب رؤوس الأموال.
  4. التواصل والإرشاد (Communication and Guidance): يلعب التواصل الشفاف والواضح من قبل البنك المركزي دورًا مهمًا في توجيه توقعات السوق. عندما يعلن البنك المركزي عن أهدافه وسياساته المستقبلية، يمكنه التأثير على سلوك المستثمرين والمتعاملين في السوق، مما يساهم في استقرار سعر الصرف ويقلل من حالة عدم اليقين.
  5. تنظيم سوق الصرف الأجنبي (Foreign Exchange Market Regulation): يشمل ذلك وضع القواعد واللوائح التي تحكم عمل سوق الصرف، ومراقبة المتعاملين فيه، لضمان الشفافية والعدالة ومنع الممارسات الاحتكارية أو التلاعب بالأسعار. هذا التنظيم يساهم في بناء الثقة في السوق ويقلل من دور السوق السوداء.

التأثيرات المتوقعة على الاقتصاد السوري

تطبيق سياسة التعويم المدار في سوريا يحمل في طياته تأثيرات محتملة ومعقدة على الاقتصاد، خاصة في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد. يمكن تحليل هذه التأثيرات من منظورات مختلفة، مع الأخذ في الاعتبار التحديات الفريدة التي تواجه الاقتصاد السوري.

  1. استقرار سعر الصرف: من المتوقع أن يساهم التعويم المدار في تحقيق استقرار أكبر لسعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية، خاصة الدولار الأمريكي. هذا الاستقرار ضروري لتقليل حالة عدم اليقين في السوق، وتسهيل التخطيط الاقتصادي للشركات والأفراد.
  2. الحد من السوق السوداء: أحد الأهداف الرئيسية لهذه السياسة هو القضاء على الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء للعملات الأجنبية. إذا نجح البنك المركزي في إدارة سعر الصرف بفعالية، فقد يؤدي ذلك إلى تقليص دور السوق السوداء وتوجيه التعاملات المالية نحو القنوات الرسمية، كما ذكر محافظ البنك المركزي السوري في تصريحاته لـ “فايننشال تايمز”.
  3. مكافحة التضخم: يمكن أن يساعد استقرار سعر الصرف في كبح جماح التضخم المفرط الذي عانت منه سوريا. فاستقرار سعر العملة المحلية يقلل من تكلفة السلع المستوردة، وبالتالي ينعكس إيجابًا على أسعار المستهلكين.
  4. جذب الاستثمارات: تقلبات سعر الصرف تشكل خطرًا كبيرًا على المستثمرين. من خلال توفير بيئة أكثر استقرارًا لسعر الصرف، يمكن أن تساهم سياسة التعويم المدار في جذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية، مما يدعم النمو الاقتصادي. كما أن إعادة ربط سوريا بنظام سويفت ستشجع التجارة الخارجية وتسهل الاستيراد والتصدير، مما يجذب العملات الأجنبية.
  5. مكافحة غسل الأموال: من خلال تمرير جميع عمليات التجارة الخارجية عبر القطاع المصرفي الرسمي، يمكن أن تدعم هذه السياسة جهود مكافحة غسل الأموال والتخفيف من الاعتماد على الشبكات المالية غير الرسمية.

ولكن أيضًا لهذا النظام تأثيراته السلبية المتوقعة

  1. استنزاف الاحتياطيات الأجنبية: على الرغم من أن الهدف من سياسة التعويم المدار هو جذب العملات الأجنبية، إلا أن التدخل المستمر للبنك المركزي لدعم سعر الصرف قد يؤدي إلى استنزاف الاحتياطيات الأجنبية المحدودة أصلاً، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي الهش الذي تعاني منه سوريا حاليًا.
  2. الحاجة إلى مؤسسات نقدية قوية: يتطلب نجاح التعويم المدار وجود مؤسسات نقدية قوية وشفافة وقادرة على إدارة السوق بفعالية. في ظل الظروف الحالية، قد يكون بناء هذه المؤسسات وتطوير قدراتها تحديًا كبيرًا.
  3. مخاطر التقلبات غير المرغوبة: على الرغم من التدخلات، لا يزال سعر الصرف يتأثر بقوى السوق. في حال عدم قدرة البنك المركزي على التدخل بفعالية أو في حال وجود صدمات خارجية، قد تحدث تقلبات حادة تؤثر سلبًا على الاقتصاد. كما أن سوء تنفيذ التعويم المدار قد يؤدي إلى ارتفاع التضخم بسبب عدم استقرار سعر الصرف، وتآكل ثقة الجمهور في الليرة السورية، مما قد يدفع الناس للعودة إلى استخدام الدولار الأمريكي.

ختامًا، إن نجاح سياسة التعويم المدار لا يعتمد فقط على تبني السياسة نفسها، بل على مجموعة من العوامل، فقوة البنك المركزي واستقلاليته، وتوافر الاحتياطات الأجنبية الكافية، وسياسات نقدية ومالية منسجمة مع بعضها البعض، جميعها عوامل رئيسية يجب توافرها لنجحا سياسة التعويم المدار.

تمثل سياسة التعويم المدار خطوة مهمة للبنك المركزي السوري نحو إدارة أكثر مرونة لسعر صرف الليرة السورية. إذ تهدف هذه السياسة إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي، مكافحة التضخم، والحد من السوق السوداء، بالإضافة إلى جذب الاستثمارات وتشجيع التجارة الخارجية. ومع ذلك، فإن نجاح هذه السياسة في السياق السوري يعتمد بشكل كبير على توفر مجموعة من الشروط الاقتصادية الأساسية، وقدرة البنك المركزي على إدارة التدخلات بفعالية.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.