“لم تنته الحرب حين توقفت القذائف”.. بهذه العبارة يلخص أحد سكان حي القابون بدمشق ما يشعر به اليوم، بعدما عاد مع آلاف الأهالي ليجدوا بيوتهم مدمرة، وأراضيهم مهددة، وحقوقهم مهددة بالضياع تحت وطأة قوانين التنظيم العمراني والمخططات الحكومية.

القابون الذي عانى قصفًا ممنهجًا ومعارك طاحنة منذ بداية الثورة السورية، يجد نفسه اليوم أمام حرب مختلفة، طرفها ليس عسكريًا بل قانونيًا وتنظيميًا، عنوانها: حماية حقوق الملكية والحفاظ على هوية الحي.

 

القابون.. من حي حيوي إلى ساحة حرب فمخططات تنظيمية

حي القابون يقع على المدخل الشمالي الشرقي لمدينة دمشق، ويُعتبر عقدة مواصلات رئيسية تصل العاصمة بالمحافظات الشمالية والشرقية، ويمر عبره الأوتوستراد الدولي (دمشق حمص) ما يجعله معبراً أساسياً للحركة التجارية والمدنية.

كما يشكل الحي نقطة اتصال مباشرة بين ريف دمشق الشمالي والغوطة الشرقية وبين قلب العاصمة، وكان يُستخدم كنقطة دخول رئيسية للمنتجات الزراعية والصناعية القادمة من الريف، ما أكسبه أهمية اقتصادية ولوجستية كبيرة، ويحتوي القابون على منطقة صناعية نشطة تاريخياً، وقربه من مركز دمشق جعله منطقة تصنيع وتخزين وتوزيع هامة تلبي حاجة السوق في العاصمة.

ويجاور القابون أحياء حيوية مثل جوبر، برزة، تشرين، والزبلطاني، وقربه من كراجات العباسيين والمتحلق الجنوبي يزيد من أهميته كعقدة مواصلات وتنقّل.

قبل 2011، كان حي القابون من أكثر أحياء دمشق حيويةً، وشوارعه كانت تعج بالسيارات والمارة والأسواق والورش الصغيرة والمصانع، جامعًا بين السكن والتجارة والصناعة.

ومع بداية الثورة، تحول الحي إلى ساحة معركة بين قوات المعارضة والنظام البائد، تعرض خلالها لقصف عنيف دمر معظم بناه التحتية، قبل أن يستعيد النظام السيطرة عليه عام 2017، ليبدأ بعدها هدم منظم طال أبنية نجت من الحرب تحت شعار إعادة التنظيم وإزالة العشوائيات.

تشكيل اللجنة القانونية.. دفاع أخير عن الملاك

أمام هذه التحديات، تشكلت اللجنة القانونية في القابون بمبادرة من أبناء الحي، لتكون درعًا دفاعيًا عن حقوق الملاك الأصليين.

وتضم اللجنة مجموعة من المحامين والخبراء القانونيين، بعضهم عايش القابون قبل الحرب، وآخرون عادوا إليه بعدها.

ومهامهم الأساسية تتمثل في دراسة قوانين التخطيط والتنظيم العمراني والمخططات التنظيمية، وتقديم المشورة القانونية للسكان، والتنسيق معهم لمتابعة قضايا تثبيت الملكيات، فضلًا عن العمل على تعديل بعض القوانين التي يرونها مجحفة بحق السكان.

 

يقول المحامي أسامة عبد الواحد، رئيس لجنة الحي والمستشار القانوني باللجنة القانونية، في حديث لوكالة “ستيب نيوز”: “إن المخطط التنظيمي رقم 104 الخاص بالقابون السكنية يحتاج إلى تعديلات جوهرية تضمن حقوق الأهالي”، موضحًا أن المخطط يضع محطة انطلاق البولمان ضمن المنطقة السكنية، في موقع يراه الأهالي غير ملائم، وتقترح اللجنة نقلها إلى مكان آخر أكثر انسجامًا مع بيئة الحي.

كما يشير إلى أن نسبة البناء المنخفضة، التي لا تتجاوز 35% في بعض المقاسم، تجعل من الاستثمار وإعادة الإعمار مشروعًا خاسرًا اقتصاديًا لأصحاب الأراضي. ويضيف أن الاقتطاعات الكبيرة من العقارات لصالح المرافق العامة التي وصلت أحيانًا إلى نصف مساحة العقار تجعل بعض الملكيات بلا جدوى حقيقية.

معركة تثبيت الملكيات.. ضياع العقود والأحكام

لا تقف التحديات عند حدود المخطط التنظيمي، بل تمتد إلى واحدة من أعقد المشاكل التي يواجهها الأهالي اليوم وهي تثبيت الملكيات.

وبحسب مصدر خاص من أهالي الحي فخلال سنوات الحرب، ضاعت مئات عقود البيع غير المسجلة رسميًا بسبب النزوح والتهجير، وتعرضت وكالات قانونية كثيرة للتلف أو الضياع نتيجة القصف والحرائق، فضلًا عن أحكام محاكم صدرت لصالح المالكين لكنها لم تنفذ رسميًا بسبب توقف عمل الدوائر العقارية خلال المعارك.

 

وتسعى اللجنة القانونية لحل هذه المعضلة عبر تقديم استشارات قانونية للأهالي، ومساعدتهم على فتح ملفات تنفيذية، واستكمال إجراءات تسجيل الملكية رسميًا في الطابو لحمايتها من أي قرارات تنظيمية قد تهددها مستقبلاً.

 

بين اللجنة القانونية والمخططات.. معركة نفوذ

وفيما تركّز اللجنة جهودها على المخطط 105 الخاص بالقابون السكنية، يبقى المخطط 104 الخاص بالقابون الصناعية عنوانًا لمعركة نفوذ مختلفة، إذ يخشى الأهالي أن يتحول إلى أداة لتمكين أقلية من الصناعيين والتجار المستفيدين، على حساب المالكين الأصليين، كما حدث في السابق حين جرى تقييم الأراضي وفق تصنيفات زراعية أو صناعية بناءً على اعتبارات الولاء السياسي لا القانون.

 

كيف تتحرك اللجنة اليوم؟

بحسب المحامي وعضو اللجنة “أسامة عبد الواحد” تسعى اللجنة القانونية للتواصل المستمر مع محافظة دمشق ومديرية التنظيم العمراني لتقديم مقترحات لتعديل المخططات التنظيمية بما يحفظ مصالح السكان، كما تُعد تقاريراً قانونية مدروسة تتضمن توصيات عملية لتقليص حجم الاقتطاعات وتحسين نسب البناء وشروط إعادة الإعمار.

في الوقت نفسه، تقدم اللجنة دعمًا مباشرًا للأهالي لمساعدتهم في إجراءات تثبيت الملكيات وتسجيلها رسميًا، وتستخدم الضغط الإعلامي والقانوني لتسليط الضوء على قضايا الحي ووضعها أمام الرأي العام.

 

استعادة القابون تبدأ من استعادة الحقوق

لا تبدو المعركة سهلة، فاللجنة القانونية تعرف أنها تواجه منظومة تنظيمية معقدة، ومصالح اقتصادية كبيرة، لكن أعضاءها يؤمنون أن إعادة إعمار القابون تبدأ أولًا من استعادة الحقوق والعدالة، قبل أن تبدأ إعادة بناء الحجر.

والقابون ليس مجرد حي سكني أو صناعي، بل هو عقدة استراتيجية عمرانية واقتصادية، وأهميته تكمن في كونه شرياناً يربط دمشق بمحيطها، ومع أي مشروع لإعادة تنظيمه، يجب مراعاة هذه الخصائص لتجنب قرارات تُبنى على حساب الوظيفة الحيوية التي طالما لعبها هذا الحي.

ويبقى السؤال: هل تنجح اللجنة في حماية ذاكرة وحقوق هذا الحي؟ أم أن الحرب التي أنهكته ستستمر بوجه آخر، عبر قوانين تزيل ما عجزت عنه القذائف؟

معركة قانونية يخوضها المهجرون العائدون إلى دمشق لحماية أملاكهم بمواجهة مخططات "المصالح" من العهد البائد
معركة قانونية يخوضها المهجرون العائدون إلى دمشق لحماية أملاكهم بمواجهة مخططات “المصالح” من العهد البائد

اقرأ أيضاً|| دمشق.. حي القابون على مفترق طرق فما قصّة المخطط 104 و”أمراء الحرب”؟

المصدر: وكالة ستيب الاخبارية

شاركها.