شعور بالإحباط ممزوج بالسخرية استقبل به الموسم الثالث من مسلسل Squid Game، أو “لعبة الحبار”، منذ بدء عرضه على منصة نتفليكس نهاية الشهر الماضي.
كان من المتوقع بالطبع أن تهبط تقييمات الموسم الثالث بين النقاد والجمهور، كما يحدث كثيراً مع مسلسلات المواسم المتعددة، حتى الأكثر نجاحا منها، كما حدث مثلا مع مسلسل La casa de papel (أو Money Heist وفقاً لعنوانه الانجليزي).
فيما يتعلق بـSquid Game كان نجاح الموسم الأول هائلاً مفاجئاً وغير مسبوق، إذ تربع على الفور على قائمة المسلسلات الأكثر مشاهدة على مر التاريخ، بعدد مشاهدات وصل إلى 265.2 مليون. وفي الوقت نفسه أشاد به النقاد، حيث وصل متوسط تقييماته على موقع Rotten Tomatoes إلى 95% مقابل متوسط 84% بين الجمهور. شكل نجاح المسلسل، الذي عرض في صيف 2021، خلال ذروة وباء كورونا الذي ضرب العالم لما يقرب من عامين، تحولاً كبيراً في عادات المشاهدة وصعود المنصات الرقمية وعلى رأسها نتفليكس، وقد تحول المسلسل على الفور إلى ظاهرة ثقافية منتشراً انتشار النار في الهشيم بين الكبار والأطفال، وتحولت ألعابه وأقنعته ودميته القاتلة وشخصياته إلى لعب ولوحات، بجانب استنساخه كلياً أو جزئياً في أعمال أخرى عبر العالم.
بين الخيول والبشر
مقابل النجاح الجماهيري والنقدي الهائلين اللذين حققهما الموسم الأول، تراجعت النسب في الموسم الثاني إلى 83% بين النقاد، وإلى 63% بين الجمهور، وبينما تراجع استقبال الموسم الثالث بثلاث درجات بين النقاد (80%) تفاقم التراجع بين الجمهور إلى 50%!!
هل معنى ذلك أن هذه نهاية Squid game؟ هل وصلت الفكرة إلى أقصى حدودها الدرامية، ولم يعد بإمكانها أن تتفرع أو تتعمق أكثر من ذلك؟
ربما يكون النجاح الهائل والمباغت الذي حققه الموسم الأول في ظروف ومزاج عالمي مختلف قد تحول إلى عبء على صناع العمل، إذ وضع حدا يعرفون أنهم لن يستطيعوا تخطيه أبداً.
لكن الأسوأ من ذلك قد يكون الوقوع في فخ ما تنتقده، يقوم مضمون العمل على هجاء النظام الرأسمالي بشكل لاذع وساخر، يمضي بفكرة أصحاب المال الذين يحولون الأغلبية الفقيرة إلى عبيد يتقاتلون حتى الموت من أجل متعة فرجة و”بصبصة” هؤلاء الأثرياء إلى أقصى ما يستطيع الوصول إليه الخيال الميلودرامي.
هذه الفكرة التي رأيناها من قبل في أعمال مثل Spartacus ستانلي كوبريك، 1960، والذي تحول مؤخراً إلى مسلسل من انتاج نتفليكس أيضاً، أو فيلم They Shoot Horses, Don’t They?، 1969.
وهناك إحالات عدة إلى هذا الفيلم في مسلسل Squid Game، في الحلقة الأولى من الموسم الأول يقامر جي- هون وصديقه على خيول السباق، ولكنه يتحول هو ورفاقه إلى خيول يتسابقون حتى الموت في اللعبة (كما يحدث في الفيلم) وفي الحلقة الأخيرة من الموسم الثالث للمسلسل يصرخ جي- هون في “الشخصيات المهمة جداً” والمشاهدين أيضاً: “نحن لسنا خيولاً..إننا بشر!”
الإشكالية المزدوجة هنا هي أن المسلسل يضع المشاهد في موضع “الشخصيات المهمة جداً” الذين يتسلون بالفرجة على الشخصيات وهي تتقاتل حتى الموت، كما أن صناع العمل يضعون أنفسهم، خاصة بصنعهم للموسمين الثاني والثالث، محل هؤلاء الرأسماليين الذين يصنعون هذه الألعاب الدموية لكي يربحوا الملايين.
إن أسوأ ما يمكن أن يفعله بك النظام الرأسمالي وانتاج الأفلام والمسلسلات هو أن يمتصك داخل الـ”سيستم” ويحولك إلى خادم لما تنتقده!.
عيوب تصنيع
ربما لم يكن من المفترض عمل مواسم أخرى من العمل، ولكن النجاح غواية يصعب مقاومتها، سواء بالنسبة لنتفليكس التي اعتادت على حلب بقرة النجاح حتى آخر قطرة، أو لصناع العمل الكوريين الذين شعروا أن نتفليكس بخستهم حقوقهم في الموسم الأول، وهكذا تقرر ليس فقط صنع موسم ثانٍ ولكن تقسيم هذا الموسم إلى موسمين أملاً في كسب المزيد من المال والجوائز أيضاً.. وهكذا بعد عرض الموسم (الثاني) في ديسمبر الماضي، هاهو الموسم الثالث (أو بالأحرى الجزء الثاني من الموسم الثاني) يعرض أخيراً بعد 6 أشهر من الانتظار.
مقارنة بـ9 حلقات الموسم الأول، و7 حلقات الموسم الثاني، يأتي الموسم الثالث في 6 حلقات فقط، زمن كل منها حوالي ساعة، ورغم أنه وقت كافٍ لتقديم خاتمة سريعة ودسمة ومشبعة للمسلسل، إلا أن هذه الحلقات الختامية تعاني من عيوب تصنيع كثيرة على رأسها الكتابة التي جعلت الدراما أبطأ من اللازم في بعض الأحيان وأسرع من اللازم في أحيان أخرى.
كما نعلم، يبدأ الموسم الثاني بعودة سيونج جي- هون (الفائز الوحيد في ألعاب الموسم الأول) إلى مدينة سيول للبحث عن “رجل الواجهة” Frontman للانتقام وتدمير اللعبة.
بالرغم من فوز جي- هون لـ 45.6 مليار ون كوري (ما يعادل 31 مليون دولار) إلا أنه لا يستطيع تجاوز المجازر التي عايشها وشهدت مقتل المئات من زملاءه في اللعبة خلال 6 أيام فقط، ورغبته الملحة في فهم عقلية صناع اللعبة وأغراضهم من صنعها.
أحداث متوقعة
كما يحدث غالباً في هذا النوع من الدراما يقع البطل في فخ صناع اللعبة الذين يجبرونه على خوض تجربة اللعبة مجدداً، فيما يعتقد هو أن وجوده في الداخل سيجعله يقنع اللاعبين بالتمرد ورفض الاستمرار في اللعب، أو تدبير انقلاب على منظمي اللعبة، ولكن النتيجة تكون مؤسفة على المستويين، وينتهي الموسم الثاني بهزيمة ساحقة لجي- هو يقتل خلالها معظم مؤيديه ومنهم صديق طفولته، ويتعرض هو نفسه للموت لولا أن “رجل الواجهة” يرفض قتله لغرض في نفس يعقوب.
وكما هو متوقع يعود “جي- هون” في الموسم الثالث للحياة ولاستكمال اللعبة متوقعين أن ينجح بطريقة إعجازية في تحقيق هدفه بالقضاء على هذه المؤسسة كلية القدرة العصية على الهزيمة.
بجانب خط “جي- هون” يمتد خطان دراميان آخران عبر العمل، يفترض أن يلتقيا في النهاية مع خط “جي- هون” وصولاً إلى ذروة الصراع والمعركة النهائية، وهنا بالتحديد مكمن الخلل في الكتابة.
الخط الثاني هو الحارسة الهاربة من كوريا الشمالية التي تتعاطف مع لاعب تعرفه من قبل هو أب وحيد لديه طفلة مريضة بالسرطان ما دفعه إلى الانضمام للعبة، ولذلك تقوم بإنقاذه كما تسعى إلى تخريب اللعبة من الداخل.
الخط الثالث يتمثل في المحقق الشاب “هوانج جون- هو” الذي كان يبحث عن أخيه المفقود في الموسم الأول ليكتشف في نهاية الحلقات أن أخاه هو “رجل الواجهة” في اللعبة، اسمه الحقيقي “إن هو”.
المحقق الذي ينجو من الموت في الموسم الأول يقرر أن يعود مجدداً إلى الجزيرة الخفية التي تدور فيها اللعبة، ولكنه، مثل جي- هون، يقع ضحية “رجل الواجهة” الذي يوجه أحد رجاله للتلاعب بالمحقق وفريقه.
يفترض أن الخطوط الثلاثة هذه تتصاعد وتتلاقى في نهاية المطاف لتحقق معجزة التغلب على اللعبة وصناعها و”جمهورها” من “الشخصيات المهمة جداً” VIPs، هؤلاء المليونيرات الذين يتسلون بالفرجة على الفقراء يتقاتلون حتى الموت، ولكن السيناريو، الذي صاغه مبتكر ومؤلف العمل هوانج دونج- هيوك، تفلت منه هذه الخطوط بشكل مؤسف في النهاية.
طفلة مصطنعة
بشكل مصطنع وغير منطقي تظهر لاعبة جديدة في الجولات الأخيرة من اللعبة هي طفلة رضيعة تولد (أمها هي اللاعبة الحبلى التي لا نعرف كيف قبلت أن تشارك في لعبة الموت هذه وهي في الأيام الأخيرة من حملها) ويقرر جي- هون أن يحميها ويتبناها عقب موت أمها. السطور التالية تتضمن “حرقاً لأحداث النهاية ولذلك أرجو من القارئ التوقف هنا إذا كان ينوي مشاهدة العمل دون أن يعرف نهايته).
يضحي جي- هون بنفسه لكي تفوز الطفلة الرضيعة باللعبة، أما الأموال التي كسبها هو في الموسم الأول فيقوم “رجل الواجهة” باعطاءها لإبنة جي- هون، التي كبرت الآن وتعيش في أمريكا.
وهذه النهاية تقول بوضوح أن النهاية المثلى للحروب التي ينخرط فيها الرجال (والأجيال الحالية بشكل عام) هي أن يتقاتل هؤلاء ويموتوا ويتركوا ثرواتهم لبناتهم ( لإن “المرأة مستقبل العالم”، كما يقول الشاعر الفرنسي لوي أراجون) أو بمعنى آخر، كما قال مؤلف العمل في حوار مع صحيفة The Guardian: هل لدينا الإرادة لاعطاء شئ أفضل للأجيال القادمة؟”.
الفكرة قد تكون عظيمة، ولكن الميراث الذي يتركه المتقاتلون حتى الموت لأبناءهم هو إرث ملوث بالدم والعنف وثقافة التكالب على المال والطمع، فكيف ينتظر أن تساهم هذه الملايين الملوثة في صنع مستقبل أفضل، وكيف لأموال دون قاعدة أخلاقية أو إنسانية أن تحمي هؤلاء البنات من تكرار مصائر آبائهم أو مصائر الشخصيات المهمة الرأسمالية الاستعمارية عديمة الأخلاق؟!
موت مجاني
فوق ذلك يبدو موت جي- هون في النهاية مجانياً، ذلك أن عودته إلى اللعبة للانتقام وتدمير اللعبة لا تسفر عن أي نتيجة، سوى موته، وفوز طفلة رضيعة.. أما ما يحدث داخل مؤسسة اللعبة من اختراق داخلي عبر الحارسة الشرق كورية والهجوم الخارجي الذي تقوم به “خفر السواحل” بسبب جهود الضابط (شقيق الفرونتمان)، فليس للبطل الرئيسي جي- هون أي دور فيه، ما يفاقم من مجانية موته.
ببساطة فإن معنى التضحية والبعث للبطل الدرامي مفتقد في هذه النهاية.
من الأمور السيئة أيضاً أن العمل فشل في كسب تعاطف المشاهدين مع الطفلة الرضيعة بسبب كونها “شخصية مخلقة بواسطة الكمبيوتر” CGI وبشكل مكشوف وردئ، ما يدفع المشاهد إلى السخرية أكثر من التعاطف معها والخوف عليها.
وإذا أضفنا إلى ذلك الوجود ثقيل الظل للشخصيات المهمة VIPs، فحتى حس الفكاهة والسخرية يضيع تماماً هنا.
مفهوم أن السبب من إضافة هؤلاء هو تبرير وجود المليارات التي تنفق على اللعبة (على أساس أن هناك مليارديرات مقامرون يتسلون بهذه المقتلة)، والسبب الثاني الدرامي هو إعطاء طبقة من العمق السياسي على أساس أن وجودهم استعارة للرأسمالية المتوحشة من ناحية، وللاستعمار الغربي واسع النفوذ في كوريا الجنوبية بشكل قد يكون مؤذياً أكثر مما هو مفيد.
مقارنة مزعجة
يضع المسلسل مشاهده، كما ذكرت، وبطريقة ما، محل هذه “الشخصيات المهمة” التي تتسلى بالفرجة على مشاهدة الآخرين في أسوأ جوانبهم وأكثرها لا إنسانية، وكذلك مشاهد العنف والدم والموت الذي يطيح بالجميع.
هذا النوع من “التماهي” مع “الشخصيات المهمة” الذي يجد المشاهد نفسه مضطراً إليه أحيانا (خاصة حين يتحدثون عن اللعبة باعتبارها “دراما”) مقلق ومزعج، إذ يضع المشاهد نفسه في موقف المتفرج متبلد المشاعر غير المبالي الباحث عن لحظات من الإثارة والتشويق على حساب موت الآخرين، ولعل المذابح اليومية التي تحدث في غزة تفاقم من هذا الشعور بالذنب والانزعاج من الإحساس بالتماهي مع هذه “الشخصيات المهمة”.
يفاقم من هذه الإشكالية الشكل الجروتيسكي (التشويهي) الذي تظهر به “الشخصيات المهمة” بأقنعتها القبيحة وحوارها السمج، وأيضا كثرة ظهورها في الموسم الثالث بشكل مبالغ فيه وغير مسبوق (فهم يظهرون بشكل عابر في الموسم الأول ولا يظهرون إطلاقاً في الموسم الثاني) ما يبدو أحياناً وكأنه حشو لملء بعض زمن الحلقات، أو لحقن الصراع ببعض الإثارة المفتقدة!
في النهاية لا يسعني سوى التأكيد على أن Squid Game في موسمه الثالث لا يزال مشوقاً، ولا يزال أجمل ما فيه هو مشاهد اللعب نفسها: خاصة “المساكة”، و”نط الحبل”، المقدمين بطريقة مبتكرة، ولا يزال رسالة قوية ضد توحش البشر وطمعهم، بالرغم من نهايته التي تضعف من هذه الرسالة.
* ناقد فني