أحمد الفقيه العجيلي
تمهيد تحليلي
من بَدَأ الحرب لم يحقق أهدافه، ومن لم يطلبها خرج منها دون أن يتنازل. إسرائيل أرادت إنهاء مشروع إيران النووي والصاروخي وإسقاط نظامها، لكنها فشلت. أما إيران فقد ردّت بانضباط، واكتشفت اختراقًا أمنيًا واسعًا، وردّت دون أن تُستدرج لحرب شاملة.
لا اتفاق مكتوب، ولا شروط مُعلنة، وبدعم روسي صيني غير مباشر، خرجت طهران من الجولة بأوراقها كاملة… وربما أقوى. في ميزان الحروب، لا يُقاس النصر بكثافة الضربات أو أعداد الضحايا، بل بمدى تحقيق الأهداف الاستراتيجية وفرض الإرادة السياسية على الخصم. وإذا أردنا تقييم المواجهة الأخيرة بين إيران والكيان الصهيوني، فعلينا أن ننظر لما بعد الدخان، بعيدًا عن الانفعالات الآنية أو الدعاية الإعلامية الموجهة.
الحرب لم تكن شاملة، لكنها كانت اختبارًا حقيقيًا لجهوزية الطرفين ولقدرة كل منهما على فرض معادلات جديدة. الكيان الصهيوني هو من بادر بالتصعيد، واضعًا أهدافًا واضحة وصريحة: تدمير البرنامج النووي الإيراني، وتفكيك ترسانته الصاروخية، وإجبار طهران على توقيع اتفاق جديد يلزمها بتسليم المواد المخصبة. كما أُضيف لاحقًا هدف غير معلن يتعلق بإسقاط النظام الإيراني عبر زعزعة الداخل، غير أن الهدف الرئيسي بقي هو تعطيل البرنامج النووي الإيراني ووقف قدراته على التخصيب.
ولكن بعد انقشاع غبار المعركة، لم يتأكد تمامًا من تدمير البرنامج النووي الإيراني، بل ظل يعمل دون إعلان عن أضرار جوهرية، وهو ما دفع واشنطن لاحقًا إلى التدخل عسكريًا لمحاولة استكمال ما عجز عنه الحليف الإسرائيلي.
إيران من جهتها لم تكن صاحبة المبادرة، لكنها امتصت الضربة الأولى ثم ردت بهجوم مكثف بالصواريخ والطائرات المسيّرة، استهدف عمق الكيان. الرد لم يكن مزلزلًا من حيث القوة التدميرية، لكنه كان كافيًا لإظهار قدرة طهران على تجاوز أنظمة الدفاع الإسرائيلية، وهو ما مثّل صدمة لكثير من مراكز التقدير الأمني. ومع ذلك، فإن حجم الرد الإيراني أثار انتقادات في بعض الأوساط، حيث وُصف بأنه أقل من المتوقع، وربما لا يرقى إلى مستوى الحدث. لكن قراءة هذا الرد في سياقه تشير إلى أن إيران كانت تحاول إرسال رسالة مزدوجة: نحن قادرون، لكننا لا نريد حربًا شاملة الآن.
الأهم من ذلك أن طهران أعلنت خلال هذه المواجهة عن إحباط خطة داخلية خطيرة كانت تُعدّ منذ سنوات، وكشفت عن وجود شبكة اختراق أمني واسعة تم تفكيكها جزئيًا. وقد رافق ذلك الإعلان عن مصادرة عدد كبير من الطائرات المسيّرة الجاهزة للاستخدام التخريبي، وضبط خلايا متعددة، دون تقديم أرقام رسمية موثقة. ورغم الجدل حول دقة حجم التهديد، فإن المؤكد أن طهران تعاملت معه بجدية بالغة واعتبرته مكسبًا استباقيًا بالغ الأهمية.
لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن مسرح الأحداث، لكنها دخلت في وقت بدا فيه أن الضربات الإسرائيلية فشلت في تحقيق هدفها الأبرز: تدمير البرنامج النووي الإيراني أو تعطيله. وبينما كانت طهران تُظهر تماسكًا ولم تُبدِ استعدادًا لتقديم أي تنازل، قررت واشنطن التدخل مباشرة، عبر شنّ ضربات جوية استهدفت ثلاثة مواقع مرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، في محاولة لإحداث اختراق ميداني يعوّض الفشل الإسرائيلي. الضربات الأمريكية جاءت مركزة ودقيقة، واستهدفت منشآت يُعتقد أنها على صلة بعمليات التخصيب أو الدعم الفني للبرنامج النووي. ورغم محدودية الأثر الفوري لتلك الضربات، فإنها حملت رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة لن تسمح باستمرار إيران في التخصيب بلا تكلفة، خصوصًا إذا عجز حلفاؤها عن تحقيق ذلك وحدهم. كما أظهرت أن واشنطن ما زالت تحاول رسم سقف للمواجهة، دون الانزلاق إلى حرب شاملة، وهو ما انعكس لاحقًا في طبيعة الرد الإيراني.
أما الرد الإيراني على الضربات الأمريكية، فتمثل في استهداف قاعدة أمريكية تقع في قطر، الدولة الخليجية التي تحتفظ بعلاقات جيدة مع طهران ولعبت دورًا محوريًا في جهود التهدئة. ورغم أن الضربة جاءت ضمن معادلة “الرد المحدود”، إلا أن اختيار المكان والزمن أثار الكثير من علامات الاستفهام. فالقاعدة كانت شبه خالية، ولم تُسجل إصابات أمريكية، ما قلل من وقع الرد عسكريًا، وأثار تساؤلات دبلوماسية حول الحكمة من استهداف حليف إقليمي مهم، قد تكون طهران في أمسّ الحاجة إليه مستقبلًا.
قرار وقف إطلاق النار لم يكن نابعًا من رغبة في السلام، بل فرضته حسابات المعركة نفسها. الكيان الصهيوني أدرك أن استمراره في الحرب دون تحقيق أي من أهدافه قد يضعه في مأزق داخلي ودولي، خاصة في ظل تصاعد الخسائر وتوتر الجبهة الداخلية. وإيران لم ترَ في الاستمرار فائدة، خصوصًا وأنها لم تستكمل بعد تحديث منظومتها الدفاعية، ولا تزال بحاجة لوقت لترتيب جبهتها الداخلية وتطوير تحالفاتها الإقليمية والدولية. كما أن حلفاءها الكبار روسيا والصين رغم دعمهما الاستراتيجي، لم يكونا مشجعَين على خوض حرب مفتوحة في هذا التوقيت. فموسكو المنهمكة في حرب استنزاف على الجبهة الأوكرانية لا ترغب في إشعال جبهة جديدة قد تُربك حساباتها مع الغرب، بينما تسعى بكين إلى تعزيز نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي في المنطقة دون أن تجرّ إلى توترات تهدد مشاريعها الكبرى، خاصة في الطاقة والبنى التحتية. وقد كانت الرسالة الضمنية لطهران من هذين الحليفين واضحة: الرد ضروري لحفظ التوازن، لكن دون تصعيد يُخرج الوضع عن السيطرة. وهذا ما التزمت به إيران بدقة، حين قدّمت ردًّا محسوبًا على كل من الكيان الصهيوني وأمريكا، ثم قبلت التهدئة في توقيت مدروس.
أما السؤال الذي تردده الشعوب؛ فهو: هل كان لوقف إطلاق النار علاقة بما يجري في غزة؟
حتى الآن، لا توجد مؤشرات حقيقية على الأرض تدل على أن القطاع نال نصيبًا من هذه التهدئة، بل لا يزال العدوان مستمرًا والحصار قائمًا. ورغم وجود تكهنات بأن بعض الأطراف الإقليمية قد تكون طرحت القضية في المشاورات الخلفية، إلّا أن المؤكد أن لا بندَ معلن أو حتى ملمّح إليه يشير إلى ربط مباشر بين وقف المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، وتخفيف العدوان على غزة. وهذا يعزز القناعة بأن طهران ربما خاضت المواجهة ضمن أولوياتها الاستراتيجية الخاصة، بمعزل عن حسابات المقاومة الفلسطينية أو جبهات الدعم.
أما بخصوص صمود التهدئة، فالمشهد لا يزال هشًّا. فلا توجد ضمانات صلبة، ولا اتفاق مكتوب، بل تفاهمات غير معلنة قائمة على توازن الردع المؤقت. ومع استمرار التوتر في الجبهات المتصلة، ومحدودية الثقة بين الأطراف، فإن إمكانية انهيار هذا الهدوء تبقى واردة، خاصة إن تغيرت الحسابات الإقليمية أو وقع استفزاز ميداني جديد.
من حيث النتائج، يصعب القول إن أحد الطرفين خرج منتصرًا بشكل كامل. لكن في السياسة، يكفي أن تُفشل أهداف خصمك لتسجل نقطة لصالحك. إسرائيل لم تحقق شيئًا مما أرادته، بينما إيران خرجت ثابتة، كشفت خصومها من الداخل، وردّت بما يناسب حساباتها، دون أن تُجر إلى معركة استنزاف كبرى. والأهم من ذلك، أنه لم يُعلن عن أي اتفاق مكتوب يلزم إيران بالتزامات محددة، سواء فيما يتعلق بوقف التخصيب أو تجميد برنامجها الصاروخي، أو حتى دعمها للمقاومة. وهذا وحده مؤشر على أن طهران خرجت من الجولة دون أن تخسر شيئًا من أوراقها، بل ربما عززت بعضها، واحتفظت لنفسها بحرية الحركة في ملفات الإقليم والملف النووي. وإذا كان هذا هو مقياس المرحلة، فإن طهران يمكن أن تحسب هذه الجولة لصالحها، ليس لأنها كسرت العدو، ولكن لأنها أفلتت من قبضته، واستبقت المعركة الكبرى التي يبدو أن الجميع يستعد لها، لكنها لم تُحسم بعد.