مدرين المكتومية

 

 

بدا لكثيرين أنَّ الحرب بين إيران وإسرائيل التي عصفت بالمنطقة ودفعتها نحو حافة الهاوية السحيقة، قد وضعت أوزارها، لكن ما يدور خلف الكواليس وفي غرف السياسة والاستراتيجية، يُشير إلى مسارات مُغايرة لا يعرف أحد مداها، ويُخشى من أن تكون الدوائر الغربية بقيادة الولايات المُتحدة تعُد العدة لحرب شاملة، تُعيد فيها رسم “الشرق الأوسط الجديد”.

الوضع الحالي في منطقتنا ربما يُشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة، هدوء أشبه بسكون الليل البهيم، قبل سويعات قليلة من طلوع الفجر، ودبيب النَّاس في الأسواق، هدوء يشي بأنَّ القادم سيكون مختلفًا عمّا سبقه من أحداث، وأن ما يُحاك لمنطقتنا في الخفاء أعظم وأشد ضراوة مما نعلمه ويُعلن على لسان المسؤولين وفي وسائل الإعلام.

لقد كشفت الحرب الإيرانية الإسرائيلية عن نقاط ضعف عديدة، تُعاني منها دول الشرق الأوسط، أولها: أن ما يعتقدون أنه حماية أجنبية من الخارج، ليست حماية كاملة وشاملة؛ بل هي أشبه بالابتزاز الأسود، الذي يُساوم فيه طرف طرفاً آخر، مقابل حياته ومستقبله، رافعًا شعار “إما الدفع أو….”! ثانيًا: أن منطقتنا تقف على تربة رخوة للغاية، قد تنهار في أي وقت، وهو أمر ناتج عن غياب سياسات الإدارة الرشيدة لأحوال المجتمع في الكثير من البلدان، تلك السياسات التي جنحت نحو الضرائب المرتفعة والاعتماد التام على التصدير وضعف العملات المحلية، فلا نستغرب عندما نسمع أنَّ سلعة ما في دولة عربية تباع بمليون من العملة المحلية، أو أنَّ بعض الموظفين يحصلون على رواتبهم في أكياس عملاقة، نتيجةً لتضخم العملة وانهيار قيمتها.

ثالثًا: ما يزال إعلامنا العربي غير قادر على مُمارسة دور تحليلي فاعل ومؤثر وضاغط على الأطراف الخارجية؛ إذ تواصل وسائل الإعلام تقديم تغطية تعتمد على تحريك مشاعر وعواطف الجمهور العربي المستهدف، دون أن تكون همزة وصل لنقل تفاعلات الجماهير المناهضة والرافضة للاعتداءات الغربية على عالمنا العربي. في المقابل نجد الإعلام الغربي قادر على تحريك الأحداث، فيكفي أن تنشر صحيفة مثل نيويورك تايمز تقريرًا تكشف فيه أنَّ تقارير مُخابراتية تُؤكد عدم تعرض المفاعلات النووية الإيرانية لأضرار كبيرة، فتقوم الدنيا في الولايات المتحدة ولا تقعد، ويُستثار الرئيس الأمريكي ويمارس هوايته المفضلة في إلقاء التهم على الإعلام غير المتوافق مع سياساته.

رابعًا: النظام العربي الرسمي يُعاني الفرقة ويفتقر إلى الاتحاد والاتفاق على موقف سياسي واحد وصريح، فمثلًا في القضية الفلسطينية نجد أطرافًا تدافع عن حق الشعب الفلسطيني في العيش بسلام وإقامة دولته المستقبلة، فيما نجد أطرافًا أخرى لا يعنيها هذا الأمر، وكل ما تبحث عنه هو مصالحها الضيقة بعيدًا عن مصالح الأمة العربية جمعاء.

وثمّة نظرية سياسية تحظى بانتشار واسع هذه الأيام، مفادها أنَّ ما جرى في الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل لم تكن سوى “حرب استكشافية” حتى إن البعض لا يطلق عليها اسم حرب؛ بل “عملية استكشافية”؛ حيث سعت الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل إلى استكشاف قدرات إيران الصاروخية، وكذلك استكشاف مدى الدعم الذي قد تحصل عليه؛ سواء من الصين وروسيا، أو بعض الدول حول العالم، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، علاوة على استكشاف ردود فعل دول الخليج والدول العربية المركزية والدول الإقليمية غير العربية المنخرطة أو المتداخلة في قضايا وملفات عربية بالغة الحساسية.

هذه الحرب الاستكشافية، كما يرى المحللون، منحت خبراء الاستراتيجية وصقور الإدارة الأمريكية رؤية واضحة لما قد تؤول إليه الأمور إذا ما اندلعت حرب إقليمية شاملة، ربما تُفضي في نهاية المطاف إلى حرب عالمية ثالثة، ولذلك لم يكن مُستغربًا في هذا السياق أن البعض ومنهم سياسيون كبار، عبَّروا عن مخاوفهم من اندلاع “حرب عالمية ثالثة”، وربما حرب نووية، إذا ما غامر طرف باستخدام السلاح النووي كخيار أخير ووجودي!

لكن السؤال الذي يجب أن نجد له إجابة هو: هل إيران على علمٍ بما يُحاك ويُدبر في دهاليز البيت الأبيض وأقبية أجهزة المُخابرات وعلى رأسهم الموساد و”السي آي إيه”؟ وما خططها لمواجهة ذلك؟

الوقائع تشير إلى أنَّ نقطة ضعف إيران الرئيسية تتمثل في عدم امتلاكها لمنظومة دفاع جوي فاعلة، تضمن الحماية الكاملة للأجواء الإيرانية والسيادة عليها، ومن ثم صد أي عدوان جوي قد يقع. وهُنا تفيد تسريبات إعلامية أن طهران تسعى حثيثًا لامتلاك منظومة الدفاع الجوي “إس400” من روسيا، وهي واحدة من أفضل منظومات الدفاع الجوي في العالم؛ بل إنها دُرة تاج الصناعة العسكرية الروسية. كما تسعى طهران للحصول على منظومة الدفاع الجوي الصينية المعروفة باسم “HQ16” و”HQ17″، وهما نظامان للحماية الجوية. والحقيقة أن الصناعة العسكرية الصينية أثبتت تفوقًا مذهلًا وباتت منافسًا شرسًا للصناعة العسكرية الأوروبية والأمريكية، وما يؤكد ذلك المناوشات التي وقعت بين الهند وباكستان؛ حيث نجحت باكستان في إلحاق خسائر هائلة بالجيش الهندي، مع إسقاط مقاتلات غربية مثل “الرافال” فرنسية الصنع، وأكثر من  25 مسيرة هندية إسرائيلية الصنع من طراز “هاروب”. واستخدمت باكستان في ذلك وسائل دفاعية صينية، مثل الطائرة المقاتلة متعددة المهام “جيه إف17” طائرة مقاتلة صينية باكستانية الصُنع.

لذلك التوقعات تشير إلى أن طهران بالفعل أصبحت قاب قوسين من امتلاك منظومة دفاع جوي قوية وفاعلة، قادرة على الحفاظ على سيادة الجمهورية الإسلامية من أي اختراقات جوية؛ سواء عبر مقاتلات أو مُسيّرات أو صواريخ باليستية تُقذف من خارج الحدود.

وفي تقديرنا، أن إيران تعلم علم اليقين بما يخططه الغرب لها، وأن حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن “استسلام غير مشروط”، لم يكن وسيلة للضغط من أجل وقف الحرب؛ بل استراتيجية يُريد تنفيذها مهما طال الأمد. ويتزامن ذلك مع إمكانية تحقيق إيران لنسبة تخصيب اليورانيوم المطلوبة لصناعة سلاح نووي، أو على الأقل شراء رؤوس نووية، وهي لديها من الصواريخ القادرة على حمل هذه الرؤوس. وقد صرح نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديميتري ميدفيديف بأن إيران قد تحصل على السلاح النووي من أي طرف، ولا نعلم يقينًا من كان يقصد بهذا الطرف، هل روسيا نفسها أو كوريا الشمالية أو الصين، أو ربما باكستان، وهم من الدول الأعضاء فيما يصطلح على أنه “النادي النووي”.

الحقيقة أنَّ كل هذه المواجهات والحروب والدمار، سببه الأول والأخير ما يجري في غزة من حرب إبادة جماعية، لذلك إذا ما أراد العالم نزع فتيل أي حرب مدمرة مستقبلًا، عليه أن يوقف العدوان الإسرائيلي على غزة فورًا الآن. لكن من المؤسف أن الغرب المنافق لا يريد ذلك، بل يعارض أي توجه أو تعاطف مع الشعب الفلسطيني، ولنا فيما فعله الثنائي البريطاني بوب فيلان، عندما هتفا في حفلة لهما في بريطانيا قائلين “الموت الموت لجيش إسرائيل”، ما أثار غضبًا كبيرًا سواء في بريطانيا أو أمريكا، التي ألغت تأشيرات دخولهما لإقامة حفلات هناك.

لذلك على الغرب التوقف عن دعم الكيان الإسرائيلي والتحلي بالرشد في نظرته للمنطقة، والتيقُّن بأنَّ أي حرب مدمرة في هذا العالم ستقذف لهيبها على الجميع، وأن لا بديل عن وقف حرب الإبادة في غزة، ومنح الشعب الفلسطيني الحق في إقامة دولته المستقلة، علاوة على محاسبة المجرمين من عصابة نتنياهو وبن غفير وغيرهما.

شاركها.