في ظل تسارع التطور التقني والانفتاح الكبير الذي تشهده وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها، لوحظ تزايد بث المحتويات غير اللائقة أو المخلة بالآداب العامة، ويعتقد البعض منهم أن ذلك يتم في إطار حرية الرأي والتعبير، ولا يقع تحت طائلة المساءلة القانونية، وهو ما يثير تساؤلات حول حدود حرية الرأي والتعبير، ومدى فاعلية القوانين في مملكة البحرين للتصدي لمثل هذه الظواهر.
وكشفت إحصائيات النيابة العامة أن قضايا إساءة استخدام منصات التواصل الاجتماعي للعام 2024 بلغت 2215 قضية، حيث تصدرت منصة «الإنستغرام» و«التيك توك» بعدد قضايا سوء الاستخدام، وهو ما يستدعي الحل الجذري والإجراء الصارم لمواجهة المحتوى غير الهادف المنتشر في معظم تطبيقات التواصل الاجتماعي، والتي تؤسس لسلوكيات وأفكار هدامة، واستغلال سيئ للتطبيق في نشر محتوى هابط لا يليق بمجتمعاتنا الخليجية أو العربية.
حيث قامت الجهات المعنية بإحالة 366 قضية ، وسجلت 49 قضية في أنها كانت قيد التحقيق، في حين تحفظت على 993 قضية خلال العام المنصرم.
واستمرت الجهات المعنية بالتحرك «والضرب بيد من حديد» خلال الفترة من 31 مايو 2025 حتى 2 يوليو، وذلك بحبس وإحالة 7 متهمين لإساءتهم استخدام برامج التواصل الاجتماعي وجهرهم علانية بأحاديث وإيماءات مخالفة للآداب العامة ونشر مقاطع مخلة بالحياء عبر وسائل التواصل.
ووفق منصة WE ARE SOCIAL، فقد بلغ عدد مستخدمي «تيك توك» 1.19 مليون مستخدم تبلغ أعمارهم 18 عاماً فأكثر في البحرين في أوائل عام 2025.
من جانبه استنكر المجتمع البحريني تصدر بعض البثوث، لأنها تتجاوز حدود الأدب، وتُخدش الذوق العام، وتباينت الآراء بين حظر التطبيقات وتقييد محتواها، وبين زيادة الوعي وخلق جيل واعٍ قادر على اختيار ما يشاهده من محتوى، مع التشديد على الإجراء القانوني الرادع. حيث قالت أم أحمد إن «السيطرة على الأطفال والمراهقين من مخاطر المحتوى الهابط باتت صعبة جداً، فعملية إقناع الطفل والمراهق بأن هذا الشيء خطأ، ولا يمكن الاستمتاع به بل الابتعاد عنه صعبة جداً، وهذا الأمر يجعل عملية التربية معقدة وبحاجة لوقت طويل من قبل الأبوين، لذلك دعت لحظر التطبيقات الناشرة لهذه المحتويات أسوة بالدول الأوروبية والآسيوية، للحفاظ على النشء والمجتمع».
فيما شددت منيرة عادل على زيادة الوعي، والمراقبة المستمرة من قبل الوالدين والأهل، والإرشاد الواعي للأبناء والبنات، فيما يخص المحتوى المنشور والذي يتابعونه، وقالت إن الجيل الجديد مختلف، ويسمع للمنطق ويستطيع أن يميز ما يضره وما يفيده إذا كانت الطريقة المستخدمة في النصح والإرشاد صحيحة، مشيرة إلى أن منصات التواصل الاجتماعي بها الصالح وبها الطالح، ولكن الوعي هو ما يحدد ما ننساق له.
من جانبه دعا أبو يوسف للتشديد في الإجراءات القانونية المتخذة تجاه كل ناشر أو مقدم للمحتوى المخل، وقال إن العقوبة الشديدة هي الرادع الأقوى لهذه الفئات التي تسعى لفساد المجتمع، وتستخدم الوسائل المختلفة للضرر بدل الإفادة، دون مراعاة للأخلاق العامة، وحياء المجتمع البحريني المحافظ والرافض لمثل هذه الظواهر.
فيما قال المستشار القانوني محمد الذوادي، إنه لا بد أن ندرك أن حرية الرأي مكفولة للجميع بموجب نص المادة 23 من دستور مملكة البحرين، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غير ذلك، إلا أن هذه الحرية غير مطلقة، وإنما يجب أن تقف عند حدها الطبيعي المقرر في الدستور، والذي يتطلب عدم الإخلال بالقيم الدينية أو الاجتماعية أو التسبب في أضرار بالنظام العام، مما يستوجب أن لا يخرج ذلك الرأي أو التعبير عن الشروط والأوضاع التي يقرها القانون، وأن لا يمس بأسس العقيدة الإسلامية أو وحدة الشعب، وأن لا يتناول ما يثير الفرقة أو الطائفية.
وعني المشرع البحريني بتنظيم مسألة حرية الرأي والتعبير بشكل عام، وتناول المحتوى الرقمي بشكل خاص، وقد تصدى للمحتوى الرقمي غير اللائق بفاعلية من خلال العديد من النصوص القانونية التي أوردها في قانوني العقوبات وجرائم تقنية المعلومات. فقد قرر المشرع في المادة 350 من قانون العقوبات المعاقبة بالحبس لمدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة لكل من أتى فعلاً مخلاً بالحياء العام، كما قرر في المادة 355 من ذات القانون المعاقبة بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين وبالغرامة لكل من طبع أو استورد أو صدر أو حاز أو عرض بقصد الاستغلال أو التوزيع كتابات أو مطبوعات أو صوراً أو أفلاماً أو غيرها من الأشياء المخلة بالحياء العام.
ومن جانب آخر، نجد أن المشرع في قانون جرائم تقنية المعلومات شدد على جرائم نشر أو بث المواد الإباحية والمسيئة أو التهديد عبر الإنترنت، فقد قرر في المادة 5 منه المعاقبة بالحبس والغرامة التي لا تجاوز ثلاثين ألف دينار لكل من استخدم شبكة المعلومات أو وسيلة من وسائل تقنية المعلومات في تهديد أو ابتزاز شخص لحمله على القيام بفعل أو الامتناع عنه، كما قرر في المادة 10 منه بالمعاقبة بالحبس لمدة لا تقل عن سنة وبالغرامة لا تجاوز عشرة آلاف دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين، لكل من أنتج أو استورد أو باع أو عرض أو تداول أو وزع، أو أتاح عبر شبكة المعلومات أو أي وسيلة تقنية أخرى مادة إباحية أو مخلة بالآداب العامة.
ورغم وجود العديد من النصوص القانونية الواضحة والصريحة في هذه المسألة، إلا أنه لاتزال هناك إشكاليات عديدة تكمن في صعوبة المراقبة الفورية؛ نظراً للطبيعة العابرة للحدود عبر الإنترنت، والتي تجعل من الصعب ملاحقة المحتوى في اللحظة الفعلية للبث، خاصة النشر عبر حسابات مجهولة أو وهمية. بالإضافة إلى بطء الإجراءات القانونية أحياناً، والتي قد تؤدي إلى عدم تحقق الردع الفوري أو الفعّال. فضلاً عن نقص التوعية القانونية في أوساط الشباب والمؤثرين الجدد حول ماهية «المحتوى غير المشروع» أو «الحدود القانونية للنشر».، ناهيك عن التقنيات المستخدمة في إخفاء البيانات مثل استخدام شبكات VPN أو الحسابات المؤقتة، مما يصعب من عملية التتبع والملاحقة.
ولذا أصبح من الضروري معالجة مثل هذه المشاكل، من خلال تعزيز الشراكة بين الجهات الأمنية وشركات التواصل الاجتماعي بهدف حجب المحتوى المخالف فور رصده والإبلاغ عنه لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة حيال مرتكبي هذه المخالفة، مع ضرورة العمل على تسريع الإجراءات القانونية للتعامل مع المحتوى الإلكتروني على الفور قبل سرعة انتشاره، وإطلاق حملات توعوية موجهة لمستخدمي المنصات الرقمية توضح لهم ضرورة الحفاظ مشروعية المحتوى المقدم، والعقوبات المترتبة على مخالفتها مع التنبيه بضرورة التعاون بين كافة المستخدمين في الإبلاغ عن المخالفات، وقد نكون بحاجة كذلك إلى تغليظ العقوبات في حالات العود لتكون أكثر ردعاً للمخالفين المستهترين.
وأكدت الأخصائية الاجتماعية سارة يوسف أن العديد من هذه البثوث لا تقدم سوى محتوى هابط، كلمات نابية، إيحاءات مباشرة، وأحياناً سلوكيات تُروّج لانفلات أخلاقي تحت غطاء «الترفيه»، والأسوأ أن بعض المراهقين يرون في هذا النموذج طريقًا سريعًا للشهرة والربح. وعن أسباب القدوم على مثل هذا الفعل من الناحية النفسية بينت الأخصائية الاجتماعية سارة يوسف أن البعض يستخدم هذه المنصات:
لإشباع حاجات نرجسية «مثل الحاجة للانتباه، الإعجاب»، مما قد يُفضي إلى سلوكيات مرضية مثل الإدمان على الشهرة أو القبول الافتراضي. ضعف تقدير الذات. إدمان الشهرة اللحظية. الفراغ وغياب الرقابة. الاعتقاد بأن هذا الطريق الأسهل والأسرع للنجاح.
وأوضحت أن أضرار البثوث المخلة تشمل:
تشويه صورة المجتمع البحريني، تُصدِّر للعالم صورة سطحية، تُظهر أبناء البحرين كأنهم بلا وعي ولا مبادئ. انحدار في القيم والدين، تطبيع ألفاظ وسلوكيات لا تمثل ديننا ولا أخلاقنا، مما يضعف الوازع الأخلاقي لدى الشباب، ضرب الهوية البحرينية أي تهدم ما بُني من إنجازات حضارية وثقافية، وتختزل البحرين في مشاهد مُخلة ترندية لا تمثله. وأوضحت أن التأثير يصل إلى المتابع، حيث يؤدي إلى إدمان المحتوى المثير، فالدماغ يعتاد على جرعات عالية من الإثارة السطحية، فيفقد التركيز ويبحث دائمًا عن المزيد. بالإضافة إلى تشويش الهوية، حيث إن المراهق لا يعرف هل يُرضي أسرته، أم يقلّد المؤثرين لجمع المتابعين!، كما يسبب اضطراباً في القيم، فيصبح الجريء والمُخل أكثر قبولاً من المتزن والمحترم.
أما عن الحلول المقترحة فقد دعت سارة يوسف إلى: التثقيف الرقمي المبكر: لنحمِ أبنائنا بالمعرفة، لا بالمنع فقط. الرقابة الذكية لا المتسلطة: تقف في وجه المحتوى المنفلت، وتدعم الإبداع القيمي. ودعم المحتوى الهادف: فلنصنع تياراً جديداً من المؤثرين الذين يجمعون بين التأثير والإلهام.
وأكدت المستشار الأسري والأخصائي النفسي د. دلال العطاوي أنه، وفي ظل الانفتاح الرقمي المتسارع، لم تعد الأسرة وحدها تصنع وعي الطفل، بل أصبح الهاتف ومواقع التواصل الاجتماعي شركاء في التربية؛ نظراً للاستخدامات الأطفال للهواتف وتعاملهم المباشر مع المنصات الاجتماعية، كما أصبح المؤثر” وما يقدمه من محتواه قدوة غير مرئية، تحفر في وعي الصغار، دون أن يشعروا بذلك.
وأضافت: لقد بات من المألوف أن نشاهد أطفالاً يقلّدون حركات، وألفاظ، وسلوكيات بعض من المؤثرين الذي تنقصهم المسؤولية الاجتماعية، ينشرون محتوى فيه استعراض سطحي، أو ألفاظ مبتذلة، أو حتى سلوكيات مخالفة للآداب العامة، تحت مسمى “ترفيه”، بينما في الحقيقة والواقع هم يرسّخون نماذج غير صحية قد تضر بالنمو النفسي والسلوكي للطفل، وتنتج عنه أفكار سلبية تضر بمعتقدات وكيان الطفل الاجتماعي.
وقالت العطاوي: «أظهرت العديد من الدراسات الحديثة في علم النفس الإعلامي أن العرض المتكرر للمحتوى المثير أو السلبي على الأطفال والمراهقين يؤثر بشكل مباشر على سلوكهم وانفعالاتهم، بل وقد يغيّر طريقة تفسيرهم للواقع. ووفقاً لدراسة نُشرت في Journal of Adolescent Health، فإن التعرض المستمر لمؤثرين يمجدون العنف اللفظي والألفاظ الهابطة أو السخرية أو ثقافة الاستهلاك السطحي يضاعف من احتمالات ظهور مشكلات سلوكية لدى المتابعين من صغار السن ويؤدي إلى اضطرابات شخصية».
ولعل الأخطر أن بعض هؤلاء المؤثرين يتجاوزون حدود الذوق أو الأخلاق، خاصة لوجود سعي وراء الشهرة والربح السريع، دون الوضع بعين الاعتبار للمعتقدات والأعراف المجتمعية، وفي حينها يكون ضحيتهم فئات غير ناضجة فكرياً ونفسياً. ولذلك فإننا بحاجة إلى أن تتوزع المسؤولية على ثلاث جهات رئيسية تساهم بحفظ الأبناء من خطر ما يتم استعراضه في مواقع التواصل الاجتماعي، ففي المقام الأول تأتي الأسرة باعتبارها صمام الأمان الأول لحماية الأبناء من مخاطر ما يتم استعراضه في مواقع التواصل الاجتماعي، لذلك على الوالدين أن يدركوا أن منح الهاتف للطفل لا يعني التخلي عن الدور التربوي، بل إن الرقابة اليوم أصبحت رقمية أكثر من كونها واقعية فضلاً عن أهمية الحوار مع الأبناء، والمشاركة في اختيار المحتوى، ومتابعة ما يشاهدونه، فمن المهم أن يكون أولوية قصوى لدى كل ولي أمر كما يأتي دور المؤسسات التربوية والإعلامية، فمن الضروري أن تُدرج برامج التوعية الرقمية في المناهج التربوية المدرسية، وأن يتم تدريب المعلمين على كشف التأثيرات النفسية للمحتوى الإلكتروني خاصة عند ملاحظتهم أن الطفل يقلد سلوكيات بعض المؤثرين من ذوي المحتوى السلبي، بالإضافة إلى أهمية توجيه الطلبة نحو استخدام إيجابي وواع للمنصات الاجتماعية ويأتي كذلك دور أفراد المجتمع بالتبليغ عن المحتوى الضار، مع أهمية سن قوانين صارمة تجرّم بثّ أي محتوى يهدد الصحة النفسية للطفل، أو يحرّض على التنمّر، أو ينشر أنماطاً سلوكية مضللة. كما يجب تصنيف المحتوى وتحديد الفئات العمرية المسموح لها بمتابعته، كما هو معمول به عالميًا. ولا يمكننا تجاهل البُعد المجتمعي والوطني لهذه المشكلة فانتشار محتوى هابط وغير مسؤول يصدر من أفراد محسوبين على المجتمع البحريني، ويُعرض على منصات عالمية، يُسيء بشكل مباشر لصورة البحرين كدولة تحترم القيم والتربية والأخلاق. نحن نُعرِّف بأنفسنا رقمياً كما نُعرِّف بجواز سفرنا. وكل مؤثر يظهر بصورة مستهترة، أو يتلفظ بألفاظ مبتذلة، أو يمارس استعراضاً فجّاً أمام جمهور الأطفال، لا يُسيء إلى نفسه فقط، بل يُلصق بهذه السلوكيات صورة نمطية مغلوطة عن بيئتنا، وتربيتنا، وأخلاقنا.
وأكدت العطاوي أن المجتمع البحريني معروف بتحضّره، واعتداله، وتمسكه بالقيم الدينية والاجتماعية. لذلك، فإن حماية الأطفال من المحتوى المشوِّه لا تقتصر على حماية الأفراد فقط، بل هي جزء من حماية سمعة المجتمع نفسه، وصورته أمام العالم. وأردفت، لقد أثبتت تجارب العديد من الدول أن حماية الطفل في البيئة الرقمية ليست خياراً، بل ضرورة وطنية. فكل طفل يتعرض للتشويه الفكري أو الأخلاقي هو مشروع أزمة مستقبلية. والمؤثر الذي يستخف بعقله وسلوكه، هو في الحقيقة يُهدّد نسيج المجتمع على المدى البعيد. فليس كل من نال الشهرة يستحق أن يكون قدوة، وليس كل من يملك متابعين يملك التأثير الإيجابي. فعلينا كأهل ومربين ومؤسسات أن نضع هذا الخط الأحمر: بأن أطفالنا ليسوا بأداة اختبار في يد من لا يعرف خطورة ما يقدمه على الصعيد النفسي والاجتماعي.