في تحول وصفه مراقبون بـ”الاستراتيجي”، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية رفع العقوبات الاقتصادية الشاملة عن سوريا مع مطلع يوليو 2025، بعد نحو عقدين من الحصار المالي والتجاري الذي شلّ معظم مفاصل الاقتصاد السوري. القرار الأمريكي، الذي ألغى أكثر من ستة أوامر تنفيذية ورفع اسم 518 كيانًا ومؤسسة من قائمة العقوبات، فُهم في الداخل السوري على أنه بادرة أمل لانتشال الاقتصاد المتدهور، لكنه في المقابل أثار تساؤلات كبيرة عن دوافع واشنطن الحقيقية من هذه الخطوة.
مواد أكثر في الأسواق.. انفراجة يترقبها المواطنون
يرى رضوان الدبس، المحلل الاقتصادي في حديث مع وكالة ستيب نيوز أن رفع العقوبات سينعكس بشكل إيجابي جدًا على الأسواق السورية، موضحًا أن الأزمة الأساسية التي واجهها السوق خلال سنوات العقوبات تمثلت بمنع استيراد الكثير من المواد الأولية والأساسية وحتى التكنولوجية.
وأضاف: “ستتوفر مواد أكثر في السوق نتيجة رفع العقوبات، فالعقوبات الاقتصادية المباشرة كانت تمنعنا من استيراد بعض المواد الأولية وحتى بعض المواد الأساسية، وكان يُسمح سابقًا فقط باستيراد المواد الأساسية التي تُسمى مواد المعيشة الأساسية”.
ويضيف: “أما الآن، فإن المواد الأساسية والكماليات والاستثناءات جميعها ستكون متوفرة، بما في ذلك المواد الأولية للصناعة، والمواد التكنولوجية، والكيميائية، والنفطية.”
وكانت العقوبات الأمريكية منذ 2011 قد طالت قطاعات حيوية شلّت نشاط الاستيراد، مثل المعدات الصناعية وقطع غيار النفط والطاقة، إضافة إلى العقوبات المالية التي قيّدت عمليات التحويل البنكي وحجبت أي استثمارات أجنبية، وهو ما ضاعف أزمات المعيشة في البلاد.
تحويلات مالية أسهل.. ولكن العقبات قائمة
يضيف الدبس أن الجانب الأكثر تأثيرًا برفع العقوبات يتمثل بفتح الباب أمام التحويلات المالية الدولية،
ويقول: “سيفتح موضوع سويفت والتحويلات المالية بشكل مباشر، مما سيخفض رسوم التحويل بشكل كبير. حاليًا، تتم التحويلات عبر شركات خاصة، برسوم مرتفعة وتأخير كبير وعدم موثوقية عالية أحيانًا. أما التحويل المباشر فسيكون أسرع وأوفر وأكثر أمانًا، وهذا كله سينعكس إيجابًا على المواطنين عبر خفض الأسعار بمجرد خفض رسوم ومدة التحويلات.”
ويشير خبراء اقتصاديون إلى أن النظام المصرفي السوري ظلّ معزولًا عن شبكة “سويفت” منذ فرض العقوبات، ما أجبر المستوردين والتجار على التعامل مع مكاتب حوالات غير نظامية ذات عمولات مرتفعة جدًا وصلت إلى أكثر من 8% من قيمة التحويل، فضلًا عن تأخيرات تصل أحيانًا لأسبوعين.
شراكات مالية ومشاريع استثمارية.. على الورق فقط حتى الآن
وحول سؤالنا عن تفعيل خطوط مالية ومشاريع شراكة مع الخارج عقب رفع العقوبات، قال الدبس: “حتى الآن لم يتم تفعيل ذلك بشكل كامل. جرت محاولات عبر البنك المركزي السوري بالتعاون مع بنوك قطرية وأردنية، ولكن بشكل مباشر داخل البنوك السورية لم يبدأ العمل فعليًا. هناك إجراءات إدارية وقانونية تحتاج وقتًا، وبعض القرارات التنفيذية لا تزال بانتظار توقيع الرئيس الأمريكي، وهي قرارات تنفيذية وليست تشريعية، لذا بدأ تنفيذها تدريجيًا.”
ويضيف أنه رغم الاجتماعات الجارية حاليًا بين وزارة المالية السورية والمصرف المركزي مع بعض الجهات الأوروبية والمراكز الاقتصادية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي للتنمية، إلا أن هذه الخطوات لا تزال ضمن إطار المشاورات، دون دخولها حيز التنفيذ على الأرض.
وبحسب تقارير اقتصادية غربية، فإن رفع العقوبات الأمريكية ترافق مع تخفيف تدريجي للعقوبات الأوروبية والبريطانية أيضًا، لكن استثناءات كثيرة لا تزال قائمة، خصوصًا المتعلقة بالكيانات التي كانت مرتبطة بالنظام السوري البائد أو المتهمة بانتهاكات حقوقية، وهو ما قد يبطئ مسار التعافي الكامل.
شركات أمريكية على أبواب سوريا.. قطاعات مستهدفة
وفيما يتعلق باحتمالية دخول الشركات الأمريكية إلى سوريا بعد رفع العقوبات، أوضح الدبس: أنه متوقع بشكل كبير دخولها للسوق السورية، ويقول: “الشركات الخاصة يهمها الربح، وسوريا الآن أصبحت بيئة مناسبة لهم خصوصًا بعد رفع الحظر الأمريكي، ما يمنحهم ضمانات بالعمل.”
وتوقع الدبس أن يتركز دخول الشركات الأمريكية أولًا في قطاع الطاقة، سواء النفط أو الغاز أو الكهرباء، باعتباره الأكثر جدوى اقتصاديًا، إضافة إلى قطاع اللوجستيات والنقل والشحن الجوي والبحري، في حال عادت المطارات والموانئ السورية للعمل بكامل طاقتها.
كما أشار إلى احتمالية دخول شركات مالية ومصرفية وحتى شركات العملات الرقمية، لافتًا إلى أن الأسواق الناشئة مثل سوريا غالبًا ما تكون هدفًا سريعًا لهذه الشركات لتحقيق الريادة وبناء حصة سوقية قبل دخول المنافسين الكبار.
سعر الصرف.. رهينة الإصلاحات وليس العقوبات فقط
وعن تأثير رفع العقوبات على سعر صرف الليرة السورية، يقول رضوان الدبس: “لا أتوقع تحسنًا سريعًا بسعر الصرف، لأن الموضوع مرتبط بالعقوبات وبأمور أخرى عديدة. هناك حاجة لسياسات نقدية وتشريعات اقتصادية جديدة، إذ إن أغلب التشريعات الحالية قديمة تعود إلى ما قبل 2010، ولم تُحدَّث خلال السنوات الماضية إلا بتعديلات بسيطة، دون إنشاء بنية اقتصادية متكاملة.”
وأضاف أن تحسن سعر الصرف مرتبط أيضًا بتحسين البنية التحتية والقدرة الصناعية والإنتاجية للبلاد، وهو أمر يتطلب سنوات وليس أشهرًا. ويأتي هذا في ظل تقديرات اقتصادية دولية تشير إلى أن خسائر الاقتصاد السوري منذ 2011 تجاوزت 442 مليار دولار، وهو رقم يحتاج إلى أكثر من رفع عقوبات لإنعاشه، بل إلى برامج إعادة إعمار واستثمار وهيكلة اقتصادية شاملة.
رفع العقوبات.. حسابات سياسية أمريكية أم دعم إنساني؟
أما على الصعيد السياسي، فيرى يحيى العريضي، المعارض والسياسي السوري، أن رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا لا يحمل بالضرورة بعدًا إنسانيًا أو اقتصاديًا بحتًا، بل هو قرار سياسي استراتيجي يخدم مصالح واشنطن بالدرجة الأولى.
ويقول العريضي: “كل ما فُرِض من عقوبات أمريكية منذ سبعينيات القرن الماضي كان والمنظومة الأسدية في السلطة. مع انتهاء تلك الحقبة، وتغيّر النهج، لم يعد هناك من مبرر لتلك العقوبات؛ خاصة أن أمريكا عندما تفرض عقوبات تكون مستفيدة منها استراتيجياً أو ماديًا أو سياسيًا.”
لكنه عاد ليشكك في نوايا واشنطن، معتبرًا أن القرار يحمل طابعًا معنويًا أكثر من كونه اقتصاديًا ملموسًا، ويضيف: “لا أراه دعماً قوياً محسوساً في الواقع يساهم في وقوف سوريا على قدميها، بل له الطبيعة المعنوية والنظرية بالدرجة الأولى”
الولايات المتحدة.. مصالح تتجاوز حدود سوريا
ويتابع العريضي: “أمريكا لا تتحرك وفق اعتبارات خيرية أو إنسانية. هذه اعترافات تبدو طبيعتها مفرحة ومبشرة، لكنها بالتأكيد مشروطة وقد يكون لها غايات غير واضحة بعد؛ فما تعودنا من أمريكا أن تكون جمعية خيرية ونعرف أن لها عشيقًة واحدًة في المنطقة اسمها إسرائيل.”
وأكّد أن واشنطن رغم رفعها للعقوبات، إلا أنها ستبقي العصا مرفوعة، عبر إمكانية إعادة فرضها في أي لحظة إذا رأت أن مصالحها أو مصالح إسرائيل مهددة، معتبرًا أن أمريكا تدرك تمامًا أنها لا تستطيع إعادة بناء سوريا كدولة حديثة مستقلة وقوية، بل فقط كمساحة نفوذ ضمن ترتيبات إقليمية تخدم استراتيجيتها الأشمل.
طريق طويل بين الانفراجة والقيود
في المحصلة، يبدو أن رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا خطوة كبيرة من الناحية الشكلية، وقد تكون مقدمة لانفراجات اقتصادية تدريجية، لكنها تظل رهينة إصلاحات هيكلية عميقة وتشريعات اقتصادية حديثة قادرة على استيعاب تدفق الاستثمارات، إلى جانب الحلول السياسية الحقيقية التي تنهي حالة الانقسام والصراع في البلاد.
وحتى ذلك الحين، تبقى الأنظار معلّقة بمدى قدرة دمشق على ترجمة هذه الفرصة إلى واقع ملموس ينعكس على حياة المواطنين الذين أنهكتهم الحرب والعزلة والفقر لعقد كامل، في انتظار ما ستقرره حسابات السياسة الأمريكية مستقبلًا.
اقرأ أيضاً|| السلام بين سوريا وإسرائيل برعاية أمريكية.. هل اقترب الموعد وما هي الشروط؟
المصدر: وكالة ستيب الاخبارية