شهدت مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية في السادس والسابع من يوليو، انعقاد القمة الـ17 لمجموعة بريكس، في توقيت بالغ الحساسية عالميًا، وبينما كانت أنظار العالم تتجه صوب هذا التكتل الاقتصادي والسياسي الناشئ، غاب عن المشهد اثنان من أعمدته الأساسية، هما الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيما ألقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بظلال ثقيلة على القمة من خلال تهديده العلني بفرض رسوم جمركية إضافية على دول تنحاز إلى سياسات مناهضة لواشنطن، وعلى رأسها أعضاء مجموعة بريكس.
لكن ما الذي دار فعلًا في هذه القمة؟ ولماذا غاب أهم قادتها؟ وهل يمثل بريكس اليوم تهديدًا حقيقيًا للنظام العالمي الذي تقوده أمريكا وحلفاؤها؟
غياب الكبار: بوتين وشي خارج المشهد
لأول مرة منذ تأسيس المجموعة، يغيب الرئيس الصيني عن القمة السنوية للبريكس، وقد مثّله رئيس الوزراء لي تشيانغ، في مشهد أثار تساؤلات واسعة، تزامنًا مع غياب الرئيس الروسي أيضًا، الذي شارك عبر تقنية الفيديو، بسبب مذكرة توقيف صادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية.
يعلق الخبير طارق وهبي على هذا الغياب، في حديث لوكالة ستيب نيوز بقوله: “غياب القادة الروسي والصيني لا يعني عدم الاهتمام، ولكن لكل واحدة من هاتين الدولتين أجندة متعلقة بالتفاعل السياسي والاقتصادي مع الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك عدم الحضور هو أيضًا تخفيف الاقتحام السياسي مع أمريكا والعمل على تثبيت الخط السياسي لكل دولة في إطار يضمن مصالحها.”
يفهم من هذا أن الغياب لم يكن تهميشًا للقمة، بل جزءًا من حسابات دقيقة، تعكس التوتر الحاصل في توازن القوى العالمي، ومحاولة للحد من الاستفزاز المباشر تجاه واشنطن.
تهديدات ترامب والقلق من صعود بريكس
على الضفة الأخرى من الأطلسي، جاء رد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب واضحًا وصادمًا، إذ هدد بفرض 10% رسوم جمركية إضافية على أي دولة تتحالف تجاريًا أو سياسيًا مع مجموعة بريكس، في محاولة لعرقلة تمدد هذا التكتل الذي يضم اليوم 11 دولة، بعد توسيعه في قمة جوهانسبيرغ 2023 ليشمل دولًا مثل السعودية، إيران، الإمارات ومصر.
واعتبر الخبير طارق وهبي أن هذا التصعيد لم يكن مفاجئًا: “البريكس هو تجمع خطير بالنسبة لأمريكا، ولو أنه لا يزال في بداياته، لأنه أخطر تموضع في التبادل الدولي الاقتصادي. لذلك الرئيس ترامب، كرجل أعمال، يعرف جيدًا قيمة المنافسة الاقتصادية، ولذلك هو مستعد كرئيس لأمريكا أن يبدأ بوضع خطط جمركية تؤخر عملية بناء البريكس.”
تُظهر هذه التصريحات أن الإدارة الأمريكية خاصة في عهد ترامب لا ترى في بريكس مجرد تكتل اقتصادي، بل مشروعًا جيوسياسيًا يحمل طموحات لكسر هيمنة الغرب على الاقتصاد العالمي، وربما على السياسة العالمية أيضًا.
زخم يتراجع.. أم يتجدد؟
رغم صعود أهمية مجموعة بريكس خلال السنوات الماضية، إلا أن غياب الزعيمين الروسي والصيني، وفشل المجموعة حتى الآن في بلورة مشاريعها الكبرى، مثل إطلاق عملة موحدة أو آليات مالية بديلة لصندوق النقد والبنك الدوليين، قد دفع البعض للتشكيك في مستقبلها.
لكن الخبير طارق وهبي يرى أن هذا التشكيك سابق لأوانه، ويقول: “إن مجموعة البريكس هي نوع من توازن على المستوى الاقتصادي، لكنها أيضًا تجمع سياسي في المواقف ضد الولايات المتحدة الأمريكية. في داخل البريكس هناك دول متناقضة ومتضاربة في الشأن الاقتصادي والسياسي، لكن الزخم الدولي لم ينخفض، وخصوصًا أن مشروع البريكس هو تجمع مستقبلي يشمل أيضًا وحدة في العملة، وهي سلاح ضد الدولار الذي يستأثر بالاقتصاد العالمي.”
بالتالي، فإن المشروع لا يزال حيًا، وإن كانت خطواته بطيئة، لأن طموحاته تتطلب إعادة هيكلة النظام المالي الدولي، وهو أمر شديد التعقيد.
التحديات الداخلية: من التناقضات إلى الانقسامات
ربما التهديد الأكبر الذي يواجه البريكس لا يأتي من الخارج، بل من داخله. فالدول الأعضاء تختلف في التوجهات السياسية، والأولويات الاقتصادية، بل أحيانًا في العلاقات البينية نفسها، خاصة بين الصين والهند أو بين روسيا والبرازيل.
ويحذر وهبي من هذه التحديات: “التحدي الأكبر هو الانتظام السياسي في الداخل، فلا يزال هناك ضبابية في المعاملة بين الصين وكل من روسيا والهند، كما أن الأحداث الراهنة، كالحرب الأوكرانية والتصعيد في بحر الصين، تجعل هاتين الدولتين تركزان على الاستقرار الداخلي أو حتى التساؤل حول خيارات المستقبل.”
وتُعد هذه التوترات معرقلاً رئيسيًا أمام تبني مشاريع مشتركة حقيقية، كإطلاق عملة موحدة، أو إنشاء آليات أمنية واقتصادية مشتركة، أو حتى موقف موحد من النزاعات الدولية.
العملة الموحدة… الحلم الكبير
من بين المشاريع الأكثر طموحًا التي تطرحها مجموعة بريكس هو إنشاء عملة موحدة، أو على الأقل استبدال الدولار الأمريكي في المعاملات التجارية بين الدول الأعضاء.
يعلّق وهبي على هذا الطموح بالقول: “إذا استطاعت دول البريكس الاتفاق على القيمة الشرائية لهذه العملة، فمن الطبيعي أن تنجح فكرة العملة الموحدة للمعاملات التجارية مقابل الدولار. وهذا سيكون إنجازًا منذ أن احتكر الدولار ذلك، بل أصبح مصطلح (الدولرة) يسقط أنظمة في العالم.”
ومع أن هذا المشروع لا يزال في طور التخطيط، إلا أنه يحمل مضامين استراتيجية بالغة التأثير، من شأنها أن تضعف من سيطرة الدولار على التجارة العالمية، وتمنح دول الجنوب العالمي أدوات مالية أكثر استقلالية.
ما بعد القمة: مخرجات وتوقعات
رغم التحديات، خرجت القمة بإشارات واضحة تعكس تمسك الدول الأعضاء بمشروع بريكس طويل الأمد، فقد أجمعت البيانات الصادرة عن القمة على: رفض الحروب التجارية، واعتبار الحمائية الاقتصادية تهديدًا للنمو العالمي، والدعوة لإصلاح المؤسسات الدولية، وعلى رأسها مجلس الأمن وصندوق النقد الدولي، لجعلها أكثر تمثيلًا للدول النامية، والتأكيد على حق الدول الأعضاء في تنويع شراكاتها التجارية والمالية بعيدًا عن الهيمنة الغربية، والتضامن مع إيران في وجه الهجمات التي استهدفت منشآتها النووية، والمطالبة بإعادة إطلاق مسار السلام في الشرق الأوسط على أساس حل الدولتين.
البريكس ليست في أفول… لكنها تمر بمرحلة مخاض
تبدو قمة بريكس الأخيرة وكأنها نقطة تحوّل، لا بسبب تهديد ترامب فقط، بل بسبب طبيعة الحضور والغياب، ومواقف الدول، والخطابات التي ألقيت، والمشاريع التي طُرحت، ورغم أن التكتل يواجه تحديات داخلية كبرى، إلا أنه يمثل في نظر كثيرين الوجه الآخر لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
كما يذكّرنا الخبير طارق وهبي، فإن: “في النهاية، البريكس فكرة مهمة، لكن تنفيذها سيظل صعبًا طالما أن أمريكا والغرب بدرجة أقل يقف ضد ذلك.”
ربما هذا هو جوهر المعركة المقبلة في العلاقات الدولية: بين من يسعى لترسيخ هيمنة القطب الواحد، ومن يطمح إلى تشكيل عالم متعدد المراكز، أكثر عدالة وتمثيلًا لمصالح الجنوب العالمي. ومجموعة بريكس، رغم كل المصاعب، قد تكون أداة هذا التغيير أو ضحيته.
المصدر: وكالة ستيب الاخبارية