في عام 2023، تسببت حرائق الغابات الكندية في احتراق أكثر من 17 مليون هكتار (42 مليون فدان) من غابات التايجا، مع حرارة هائلة أذابت طلاء شاحنات الإطفاء، واستمرت في الاشتعال تحت الأرض طوال فصل الشتاء.
وخلقت هذه الحرارة أعمدة ضخمة من الهواء الصاعد، حاملةً الغبار والمركبات العضوية المتطايرة، وكميات هائلة من جسيم بسيط، لكنه ذو تأثير كبير على تغيّر المناخ وهو “الكربون الأسود”، وفق “بلومبرغ”.
يُعرف الكربون الأسود، أو “السُخام”، بأنه نوع من التلوث الناتج عن الاحتراق غير الكامل للوقود الأحفوري، أو الكتلة الحيوية مثل الأشجار. ويشكل خطراً على صحة الإنسان، إذ يرتبط بأمراض الجهاز التنفسي، والقلب والأوعية الدموية، كما يُعد من العوامل القوية والمؤثرة في الاحترار على المدى القصير.
ويمتص الكربون الأسود، كميات كبيرة من حرارة الشمس، وعندما يترسّب على الجليد، أو الثلج، يقلل من قدرتهما على عكس الطاقة الشمسية إلى الفضاء.
والدخان الكثيف الناتج عن تلك الحرائق، والذي غطّى نيويورك ومدناً أخرى في الجنوب، كان لافتاً أيضاً بسبب المسافة التي قطعها، فقد ارتفع بفعل الحرارة الشديدة إلى طبقات الجو العليا، وحملته الرياح حتى وصل إلى جرينلاند وما بعدها.
حرائق الغابات والكربون الأسود
ويُعد تحديد كمية الكربون الأسود، التي وصلت إلى القطب الشمالي من هذا الدخان، مسألة ملحة لعلماء المناخ الذين يخشون أن يصبح هذا الهباء الجوي عاملاً رئيسياً في تسريع الاحترار في المنطقة الأسرع ارتفاعاً في درجات الحرارة على كوكب الأرض.
ومع وصول موسم حرائق 2025 في كندا إلى منتصفه، تشير التقديرات إلى أن هذا العام سيكون ثاني أسوأ موسم خلال العقود الثلاثة الماضية، بعد الرقم القياسي المسجل في 2023، ما يزيد من إلحاح البحث عن إجابات.
تقول سارة سميث، الفيزيائية الجوية وباحثة الدكتوراه في جامعة كولومبيا، التي تدرس تأثير حرائق 2023 على الغطاء الجليدي في جرينلاند: “كلما زادت حرارة الحريق، زادت قدرته على الارتفاع في الغلاف الجوي”. وتضيف: “ما زلنا نتعلم مدى ارتفاع كتل الكربون الأسود في الجو، وتأثيراتها المحتملة”.
في السابق، كانت مستويات الكربون الأسود في جرينلاند تبدو في انخفاض، فالعينات المأخوذة من نوى الجليد، منذ القرن الثامن عشر، أظهرت ترسيبات شبه منتظمة مرتبطة بحرائق الغابات في أميركا الشمالية.
ومع بداية القرن العشرين، بدأت المستويات في الارتفاع، مع تزايد الطلب على النفط والفحم في كندا والولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
لكن مع تطبيق سياسات لتحسين جودة الهواء، مثل تركيب أنظمة تنقية في محطات الفحم، والتحول إلى وقود أنظف، بدا أن المشكلة لم تعد ملحة، خاصة مقارنة بعوامل بشرية أخرى تؤثر على المناخ.
“جرس إنذار”
ويقول مارك فلانر، الباحث في جامعة ميشيجان والمتخصص في تفاعلات الغلاف الجليدي مع المناخ: “لا يمكن القول إننا فقدنا الاهتمام، لكن كانت هناك مؤشرات على تراجع مستويات الكربون الأسود في القطب الشمالي”. إلّا أن تزايد وتيرة وشدة حرائق الغابات في الشمال غيّر هذا التصور، ويضيف: “عام 2023 كان بمثابة جرس إنذار”.
ولا تزال ديناميكيات الكربون الأسود في بيئة القطب الشمالي معقدة، وغير مفهومة بالكامل، ولا يزال العلماء غير متأكدين مما إذا كان هذا الهباء الجوي يزيد، أو يقلل من الغطاء السحابي، إذ إن أنواعاً مختلفة من السحب قد تحبس الحرارة، أو تعكس أشعة الشمس، ما يؤدي إلى تأثيرات متباينة.
كما أن تأثير الكربون الأسود يعتمد على ارتفاعه في الغلاف الجوي، فكلما كان أقرب إلى السطح، زادت قدرته على التسبب في الاحترار، وحتى عندما يترسّب على الجليد، قد يكون تأثيره محدوداً إذا غُطي بطبقة جديدة من الثلج.
وتكمن التحديات في فصل هذه التأثيرات عن التغيرات الأخرى المتداخلة في منطقة تُعد درعاً مناخياً لبقية الكوكب.
البصمة البصرية للهباء الجوي
ولفهم دور الكربون الأسود الناتج عن “حرائق الغابات العملاقة” الجديدة، بدأت سميث بدراسة “عمق البصمة البصرية للهباء الجوي” (AOD)، وهو مقياس لمدى حجب الضوء في الغلاف الجوي.
وأظهرت القياسات مستويات قياسية من AOD وصلت إلى أوروبا الغربية، وسُحباً دخانية كثيفة فوق شمال شرق الولايات المتحدة وشمال الأطلسي، حيث تم حجب ثلثي أشعة الشمس في المتوسط خلال شهر يونيو.
وخلال هذا الصيف، تأمل سميث وفريقها في توسيع فهمهم من خلال تحليل قراءات شبكة “بيربل إير” (Purple Air) من أجهزة الاستشعار الأرضية المنتشرة في جرينلاند، بما في ذلك جهاز ركّبه فلانر في كانجيرلوسواك غرب البلاد عام 2019، لتحديد ما إذا كانت الجسيمات الدقيقة قد ارتفعت في يونيو 2023 مع مرور الدخان فوق المنطقة.
وإذا ثبت ذلك – أي أن الجسيمات لم تُغسل بالأمطار فوق المحيط – فإن الخطوة التالية ستكون ربط هذه البيانات بتغيرات محتملة في الغطاء الجليدي. (ويبقى سؤال آخر مطروحاً: هل خضع الكربون الأسود لتفاعلات كيميائية خلال رحلته جعلته أقل قتامة وبالتالي أقل ضرراً؟)
يُذكر أن ما يصل إلى 85% من أشعة الشمس التي تضرب سطحاً أبيض تُعكَس، لكن الكربون الأسود يمكن أن يقلل هذه النسبة بشكل كبير عند ترسّبه على الثلج أو الجليد، ما يؤدي إلى امتصاص السطح للطاقة الشمسية بدلاً من عكسها. ولا يقتصر الأمر على زيادة حرارة الكوكب، بل إن هذا الدفء قد يؤدي إلى ذوبان الجليد المحيط، مكوّناً بقعاً مائية داكنة تمتص المزيد من الحرارة، في دورة احترار متسارعة.
تقول سميث: “قد نشهد تأثيراً مشابهاً لتضخيم مفعول الدفيئة فوق الغطاء الجليدي، وهو ما قد يكون له تأثير كبير جداً على ذوبانه”.
دورات احترار متسارعة
ويُنتج الكربون الأسود في القطب الشمالي من مصادر عدة، أبرزها: حرق الغاز في منشآت النفط والغاز الروسية، واحتراق وقود السفن، وحرائق الغابات.
ومن المتوقع أن يصبح حرق الغاز – الذي يتم فيه التخلص من الغازات القابلة للاشتعال في المصافي – المصدر الأكبر للكربون الأسود في دول القطب الشمالي بحلول عام 2030.
كما أن حركة الملاحة البحرية في المنطقة مرشحة للزيادة مع اتساع المواسم الخالية من الجليد وفتح طرق تجارية جديدة. ورغم أن حظر استخدام الوقود الثقيل في مياه القطب الشمالي، الذي دخل حيز التنفيذ عام 2024، سيقلل من انبعاثات الكربون الأسود لكل سفينة، فإن عدد السفن سيزداد حتماً.
أما “تخضّر” القطب الشمالي (أي امتداد الغابات شمالاً مع ارتفاع درجات الحرارة) فقد تزامن مع زيادة في حرائق الغابات نتيجة الظروف الأكثر حرارة وجفافاً. وهذه الحرائق قد تؤدي بدورها إلى تفاقم الاحترار العالمي، خاصة إذا أدت إلى ذوبان التربة الصقيعية الغنية بالكربون، أو احتراق مخازن الكربون في الأراضي الخثية.
وتُعد هذه الحلقات الراجعة من أكثر ما يقلق العلماء؛ لأنها جعلت من ارتفاع درجات الحرارة في القطب الشمالي ظاهرة متسارعة وليست خطية.
ويقول درو شيندل، أستاذ علوم الأرض في جامعة ديوك، والذي ترأس تقييماً للأمم المتحدة عام 2011 حول تأثير الكربون الأسود في التروبوسفير: “الاحترار في القطب الشمالي، وسرعة التغيرات الحاصلة، تدفعنا إلى ما هو أبعد من أي شيء شهدناه منذ آلاف السنين”.
الاعتماد على الوقود الأحفوري
وخلص ذلك التقرير إلى أن خفض مصادر الكربون الأسود يمكن أن يساهم في تقليل الاحترار في القطب الشمالي بنحو 0.5 درجة مئوية خلال العقود المقبلة.
وبحسب شيندل، فإن تقليص عمليات الحرق في منشآت النفط والغاز الروسية من شأنه يخفض بشكل كبير انبعاثات الكربون الأسود داخل القطب الشمالي، كما أن الحد من حركة الشحن البحري سيساعد في تجنب زيادات مستقبلية.
وتشير الدراسات إلى أن الانبعاثات في أوروبا تُعد أكثر احتمالاً للوصول إلى القطب الشمالي مقارنة بتلك الصادرة في آسيا أو أميركا الشمالية ذات خطوط العرض المتوسطة، ما يجعل من السيطرة على أنواع الوقود الغنية بالكربون الأسود هناك – مثل الديزل والفحم المستخدم في التدفئة المنزلية والوقود الحيوي – خطوة فعالة أيضاً.
ويضيف شيندل أن خفض الاعتماد على الوقود الأحفوري، بشكل عام، سيساهم في إبطاء وتيرة الاحترار العالمي، وهو ما قد يساعد في الحد من تفاقم ظروف حرائق الغابات.
ويؤكد أن البحوث المتعلقة بالكربون الأسود بحاجة إلى تحديث مستمر، مع تزايد المعرفة حول هذا الهباء الجوي، ما يجعل تتبع دخان حرائق الغابات أمراً أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ فقد أتت حرائق الغابات الكندية هذا الموسم على مساحة 4.25 مليون هكتار حتى الآن، في وقت تجاوز فيه أربعة من الأعوام الخمسة الماضية المتوسط المسجل خلال العقدين الأخيرين.
ولفترة من الزمن، بدا أن انبعاثات الكربون الأسود في القطب الشمالي قد بلغت ذروتها. لكن الآن، يقول شيندل: “هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأنها قد تسلك الاتجاه المعاكس”.