رصدت «الإمارات اليوم» مقاطع فيديو وثّق فيها أفراد لحظات شخصية لذويهم من المرضى، ونشروها على منصات التواصل الاجتماعي، من دون إخفاء لهوية المريض أو مراعاة لحالته الصحية، وفي أحد المقاطع ظهر شاب يصوّر والده المصاب بمرض الزهايمر، طالباً من المتابعين الدعاء له، بينما كان الوالد ينظر إلى الكاميرا، ويتحدث بكلمات غير مترابطة، تُظهر فقدانه التركيز والإدراك.
وفي فيديو آخر نشر شاب مقطعاً لصديق له مصاب بمرض جيني نادر، مستعرضاً عبره مراحل صداقتهما، وتطور الحالة الصحية لصديقه.
كما نشر شخص فيديو ظهر فيه مع شقيقته من أصحاب الهمم، وهو يمارس عليها خدعاً بسيطة بهدف الترفيه عنها، وسط موجة من التعليقات الساخرة.
وحذّر أطباء وقانونيون من خطورة الظاهرة، مؤكدين أن هذه الممارسات تُعد انتهاكاً صريحاً للخصوصية والكرامة الإنسانية، وتترك آثاراً نفسية واجتماعية وصحية عميقة، قد لا تُمحى، وتعيق اندماج أصحاب الهمم أو من يعانون اضطرابات نفسية في المجتمع.
وقالوا لـ«الإمارات اليوم» إن تلك الظاهرة تفتقر إلى الحد الأدنى من الإحساس بالمسؤولية، إذ يتم استغلال معاناة مرضى من أجل زيادة المشاهدات، وهو تصرّف يرقى إلى الاستغلال العاطفي والإساءة النفسية، كما أنه يُفقد المريض الشعور بالأمان والدعم، ويجعله عرضة للإهانة أو الحرج أو الاستغلال، خصوصاً إذا كان غير قادر على التعبير عن رفضه، أو لا يعي ما يحدث من حوله، ما قد يؤدي إلى انسحاب الرضا الاجتماعي، ويقوّض ثقتهم بأقرب الناس إليهم.
وأكدوا أن عرض المرضى بهذه الطريقة يعرّضهم لوصمة نفسية غير مباشرة، ويُرسخ في أذهانهم وفي أذهان المجتمع أنهم عاجزون أو محل سخرية، ما يفاقم من الشعور بالوصمة والتهميش.
وأشار أطباء إلى أنهم رصدوا حالات تأثرت نفسياً بسبب تصوير المرضى أو ذويهم في لحظات ضعف، ونشر تلك المقاطع من دون إذن، حيث تدهورت حالة بعضهم بعد علمهم بانتشار صورهم، وشعروا بالإهانة والخذلان.
كما أشاروا إلى حالات لأطفال ومراهقين نشروا مقاطع لأقاربهم بدافع التفاعل أو التعاطف، لكنهم واجهوا لاحقاً نقداً حاداً وتعليقات سلبية، ما تسبب في شعورهم بالذنب والخجل والقلق، وحدوث خلافات داخل الأسرة.
وأكدوا أن ظاهرة استغلال كبار السن، خصوصاً المصابين بالزهايمر وناقصي وفاقدي الأهلية، في المقاطع التي تبث عبر منصات التواصل، جريمة يؤثمها ويعاقب عليها القانون، أياً كان القصد والغاية من ذلك، بالحبس والغرامة 500 ألف درهم عقوبة انتهاك خصوصية كبار السن.
لحظات ضعف
وتفصيلاً، حذّرت أخصائية طب الأسرة، الدكتورة رحاب يوسف السعدي، من خطورة قيام بعض الأفراد بتصوير ونشر مقاطع فيديو لذويهم المرضى، خصوصاً من كبار السن أو أصحاب الهمم، من دون موافقتهم، مؤكدة أن هذه الممارسات تنتهك الكرامة، وتخلّف آثاراً نفسية واجتماعية وصحية بالغة.
وقالت: «من الناحية الطبية والنفسية، تؤدي هذه التصرفات إلى خلق فجوة من التوتر داخل الأسرة، إذ يشعر المريض، خصوصاً كبار السن أو من يعانون أمراضاً عصبية، بفقدان الأمان والدعم، حين تعرض لحظات ضعفه أمام الآخرين، ما ينعكس سلباً على حالته النفسية والصحية، ويُضعف الثقة داخل الأسرة، ويولد مشاعر الحرج والغضب».
وأضافت أن نشر المحتوى عن المريض، من دون وعي أو ضوابط، يعرّضه للسخرية أو الشفقة، ويؤدي إلى عزلة اجتماعية، وقد تعيق هذه الممارسات اندماج أصحاب الهمم أو من يعانون اضطرابات نفسية في المجتمع، وتحرمهم من فرص طبيعية في التعليم أو العمل أو العلاقات الاجتماعية.
وحول الحد من تلك الظاهرة، أكدت: «ينبغي علينا كمجتمع أن نعيد النظر في ثقافة المحتوى العاطفي على حساب المرضى، كما نحتاج إلى تقنين واضح يحظر تصوير المرضى ونشر صورهم من دون موافقة، وعلى المؤسسات الصحية أن ترشد ذوي المرضى إلى حدود الخصوصية».
وأشارت إلى أهمية تعزيز ثقافة الخصوصية في العصر الرقمي، وذكرت أنها واجهت حالات تدهورت نفسياً نتيجة هذا النوع من الانتهاك: «رأينا مرضى تدهورت حالتهم النفسية، بعد أن علموا أن صورهم أو مقاطع من لحظات ضعفهم انتشرت، خصوصاً مرضى الزهايمر أو من يعانون اضطرابات ذهنية، فهؤلاء عندما يكون لديهم لحظات من الوعي، ويشاهدون أنفسهم في موقف محرج، قد تتفاقم الأعراض لديهم، وتشعرهم بعدم الثقة حتى بأقرب الناس إليهم».
رحلة المرض
وأفاد استشاري الطب النفسي، الدكتور رياض خضير، بأن هناك عوامل عدة، نفسية وعاطفية، قد تسيطر على هذا التصرف، فالبعض يسعى من خلال النشر إلى طلب الدعم أو رفع الوعي أو توثيق رحلة المرض، بينما يلجأ آخرون إلى هذه الطريقة لجذب الانتباه، أو الحصول على التقدير، خصوصاً في ظل مشاعر الإرهاق والعزلة التي قد يعانيها مقدمو الرعاية.
وتابع أن «نشر صور أو مقاطع لأشخاص غير قادرين على التعبير عن موافقتهم، خصوصاً في لحظات ضعف، يعد اختراقاً للكرامة، ولو كانت النية رفع الوعي، وهذه الممارسات يجب أن تتم بعناية بالغة، وبوسائل خاصة تراعي مشاعر وحقوق الآخرين».
وحذّر من أن الأطفال الذين يعانون أي أمراض عصبية أو نفسية قد يكتشفون لاحقاً نشر لحظات خاصة بهم، مثل المرض أو الانهيار النفسي، ما قد يؤدي إلى شعور بالخجل أو الخيانة أو فقدان الثقة بأسرهم.
وقال: «في عالم رقمي لا ينسى، قد تتحول منشورات اليوم إلى عبء نفسي واجتماعي في المستقبل، وتؤثر في الهوية الشخصية والعلاقات والفرص».
وبيّن أنه من واقع الممارسة السريرية، تم رصد حالات تأثر فيها أطفال ومراهقون نفسياً بعد نشر مقاطع لأقاربهم المرضى، حيث عانى البعض مشاعر الذنب أو القلق أو الخجل، خصوصاً بعد تلقي تعليقات سلبية أو حدوث خلافات داخل الأسرة، موضحاً أن «هذا يحدث غالباً نتيجة غياب الوعي، وفي ظل ثقافة رقمية تشجع على مشاركة كل شيء، من دون إدراك للتبعات النفسية أو الأخلاقية»، مؤكداً أهمية تثقيف النشء مبكراً حول احترام الخصوصية.
عزلة واكتئاب
وحذّرت استشارية الطب النفسي، الدكتورة أمل أبوالعلا، من أن تصوير المرضى، في معظم الحالات، يشعر المريض بالإحراج أو الإهانة، وقد لا يكون قادراً في الأساس على التعبير عن مدى إحساسه بالألم النفسي الناتج عن ذلك، ما يؤثر سلباً في احترامه لذاته، ويزيد من مشاعر العزلة أو الاكتئاب.
وأضافت أن غياب الموافقة الصريحة والواضحة يُعد عاملاً نفسياً بالغ الخطورة، موضحة أنه «في حالات كثيرة، لا يكون المريض مدركاً أنه يتم تصويره، خصوصاً الأطفال وكبار السن أو المصابين بالزهايمر، وعدم حصولهم على فرصة القبول أو الرفض يزيد من مشاعر الارتباك وفقدان السيطرة، ويؤدي إلى تدهور الثقة بالنفس.
وشدّدت على أن من يُقدم على هذا الفعل يفتقر إلى الحد الأدنى من الإنسانية والإحساس بالمسؤولية، مضيفة: «بدلاً من تقديم الدعم والحماية للفئات الأضعف، يحاول البعض استغلال معاناتهم بزيادة المشاهدات، وهو تصرّف يرقى إلى الاستغلال العاطفي والإساءة النفسية».
وأكدت أن لهذا السلوك عواقب طويلة المدى، إذ «قد يشعر المريض بأنه يُستخدم وسيلة للترفيه أو الترويج لا أكثر، ما يرسّخ في أعماقه مشاعر العار والدونية والانسحاب الاجتماعي، وأن الأشخاص من ذوي الهمم أو المرضى النفسيين، عندما يُعرضون بهذه الطريقة، يصبحون ضحية لوصمة نفسية غير مباشرة».
الاستقلالية والخصوصية
بدوره، أكد المستشار القانوني، الدكتور يوسف الشريف، أن ظاهرة استغلال كبار السن، خصوصاً المصابين بالزهايمر وناقصي وفاقدي الأهلية، في المقاطع التي تبث عبر منصات ووسائل التواصل الاجتماعي، جريمة يؤثمها ويعاقب عليها القانون، أياً كان القصد والغاية من ذلك، وبالأحرى إن كانت بغرض زيادة عدد المتابعين للحسابات الشخصية لناشري تلك المقاطع، أو إذا كانت بقصد إبراز مهارات معينة، أو نشر تصرفات عفوية أو أوضاع من الحياة اليومية لكبار السن، بغرض الشهرة والانتشار والتربح.
وقال الشريف إن قوانين الدولة تكفلت بحماية كبار السن من كل سلوك يمس حريتهم وحياتهم الاجتماعية الخاصة، وكذا حالتهم الصحية، وجميع أمورهم الحياتية، وجعلها جرائم مؤثمة ومعاقب عليها في كثير من النصوص القانونية.
وأشار إلى أنه لتعدد نصوص التأثيم والعقوبات عن هذه الجرائم، يتم إعمال مبدأ العقوبة الأشد، وهو ما تطبقه المحاكم حماية لكبار السن، سواء الأصحاء أو المرضى وغير القادرين على رعاية أنفسهم.
وذكر أن القانون الاتحادي رقم (9) لسنة 2019 بشأن حقوق كبار المواطنين، كفل حق كبار السن في الاستقلالية والخصوصية، وأوجب احترام خصوصية حياتهم، وتواصلهم الفاعل مع الآخرين، ووضع عقوبة على جرائم العنف والإساءة التي تقع على كبار المواطنين.
وكذلك المادة (431) من قانون الجرائم والعقوبات، التي وضعت العقوبة عن الجريمة نفسها بالحبس والغرامة على كل من اعتدى على حرمة الحياة الخاصة أو العائلية للأفراد.
اضطرابات عقلية
من جانبه، قال المحامي علي مصبح إنه في عصر المنصات الرقمية و«الترندات» اللحظية، بات كل شيء قابلاً للتصوير، وكل حدث مؤهلاً لأن يتحول إلى محتوى، ولو كان ذلك على حساب كرامة إنسان يئنّ من المرض، أو على حساب أبٍ مسنّ فقد الإدراك والذاكرة.
وأكد أن كبار السن، وعلى وجه الخصوص من يعانون أمراضاً مزمنة أو اضطرابات عقلية كالزهايمر، يتمتعون بحق مكفول في الكرامة الإنسانية والخصوصية، وهي حقوق لا تسقط بالتقدم في العمر أو بفقدان الأهلية، وتؤكد المادة (2) من القانون الاتحادي رقم (9) لسنة 2019 بشأن حقوق كبار المواطنين على احترام كرامتهم، وحمايتهم من الإيذاء بكل أشكاله، وشدد على إن قيام أحد الأبناء أو من ذويهم بتصوير والده أو والدته أو أحد أقاربه المصابين بالزهايمر أو أي أمراض مزمنة وهم في حالة لا وعي أو ضعف شديد ثم نشر تلك المقاطع على منصات التواصل، يُعد شكلاً من أشكال الإساءة النفسية والاستغلال الرقمي، التي يجرّمها القانون بوضوح.
ويُعد تصوير شخص من دون رضاه، لاسيما إن كان عاجزاً عن الإدراك والتمييز، انتهاكاً لحرمة الحياة الخاصة وفقاً لنص المادة (44) من المرسوم بقانون اتحادي رقم (34) لسنة 2021 بشأن مكافحة الشائعات والجرائم الإلكترونية، التي تنص أيضاً على أنه يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، والغرامة التي لا تقل عن 150 ألف درهم، ولا تزيد على 500 ألف درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من التقط أو نشر صوراً أو مقاطع لأشخاص دون رضاهم، في أماكن خاصة أو في ظروف ينتهك فيها خصوصيتهم.
وأضاف: «إذا أُضيف إلى ذلك انعدام الرضا الناتج عن فقدان الأهلية القانونية للمريض، كالزهايمر، فتصبح الجريمة أشد وطأة، ويُحتمل أن تُطبّق عليها عقوبات أشد، إذا ثبت وجود نية الاستغلال أو الإساءة المعنوية».
وقال: «من المحزن أن تتحول الرعاية الأسرية من فعلٍ إنساني نبيل إلى وسيلة للعرض والمكاسب الرقمية»، منبهاً إلى أن تصوير كبار السن في لحظات ضعفهم، لاسيما من دون وعي منهم، ليس فقط مخالفة قانونية، بل هو بُعد أخلاقي في حضرة مرض يتطلب الرحمة لا العدسات.
وأكد أنه يتعين على الجهات المختصة أن تتعامل بحزم مع أي محتوى ينتهك خصوصية كبار السن، ويستغل مرضهم.
محمد الظهوري: كرامة الإنسان أولوية
قال عضو المجلس الوطني الاتحادي، محمد حسن الظهوري، إن للمرضى الحق الكامل في الخصوصية والحماية من أي استغلال رقمي، مهما كانت النيات.
وأكد أن تداول مثل هذه المقاطع، وإن جاء بدافع طلب الدعاء أو التوعية، قد يحمل أذى نفسياً كبيراً للمريض، خصوصاً إذا لم يكن قادراً على التعبير عن رفضه أو فهم ما يُنشر عنه، مشيراً إلى أن حماية كرامة الإنسان يجب أن تكون أولوية قبل أي محتوى رقمي.
ولفت إلى أن بعض هذه الحالات يتجاوز حدود التعاطف، ويدخل في نطاق الإضرار بسلامة المريض النفسية والاجتماعية.
ودعا إلى دراسة أطر تنظيمية أو تشريعية تُعزز حماية المرضى من التعدي على خصوصيتهم عبر المنصات الرقمية، من خلال توعية المجتمع بحقوق المريض، ووضع ضوابط واضحة للنشر، بما يضمن احترام الخصوصية الإنسانية، ويُرسّخ ثقافة الاستخدام الأخلاقي للمحتوى المتعلق بالصحة.
منى طحنون: تنظيم نشر المحتوى ال بالمرض
قالت عضو المجلس الوطني الاتحادي، منى طحنون، إن ظاهرة تصوير المرضى خصوصاً من كبار المواطنين وأصحاب الهمم أو من يعانون اضطرابات نفسية، ونشر تلك المقاطع على منصات التواصل من دون موافقة صريحة منهم تُعد انتهاكاً واضحاً لخصوصيتهم.
وأضافت أن مثل هذه الممارسات، وإن كانت بحسن النية، تحمل في طياتها أبعاداً نفسية واجتماعية وقانونية خطرة، خصوصاً عندما يكون المريض غير مدرك لما يُنشر عنه، أو غير قادر على التعبير عن رفضه أو الموافقة.
وأكدت أهمية تكثيف حملات التوعية المجتمعية حول هذا السلوك، ودعوة الجهات المختصة إلى تطوير أطر قانونية رادعة، تكفل احترام كرامة الإنسان، وتصون حقه في الخصوصية، بغض النظر عن حالته الصحية أو النفسية.
وتابعت: «أؤيد تبنّي تشريع أو قانون يُعنى بتنظيم نشر المحتوى ال بالمرضى، بما يُحقق التوازن بين حرية التعبير من جهة، وحق الفرد في الخصوصية والاحترام من جهة أخرى».
كما دعت إلى تفعيل أدوات الرقابة والتوعية المجتمعية والتربوية، لضمان أن تُستخدم وسائل التواصل بشكل مسؤول وأخلاقي، ولتجنب أي ممارسات قد تُلحق الأذى بالمرضى وأسرهم، مهما كانت النيات.
وأشارت إلى أنها ستعمل على دراسة هذه الظاهرة بشكل موسّع، وبحث إمكانية التقدّم بسؤال برلماني حول هذا الموضوع، بما يضمن تعزيز حماية المرضى من أي انتهاك لخصوصيتهم أو استغلال لوضعهم الصحي عبر المنصات الرقمية.