علي بن عبد الله اللواتي

 

كان الخليج العربي قبل قيام الحرب العراقية الإيرانية 1980 آمنا هادئًا، وفي غمضة عين تحول إلى موقع ساخن، حدث هذا في الثمانينيات من القرن الماضي عندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية والتي استمرت 8 سنوات عجاف.

واستنادًا لنظرة السلطان قابوس طيب الله ثراه الثاقبة في الشأن العسكري للمنطقة واطلاعه الواسع على ثقافة الفنون العسكرية والأمنية بجانب تخصصه في هذا المجال كونه قياديا عسكرياً، فقد أدرك المغفور له أن البلد والجيش بحاجة إلى سند قوي لدرء الخطر عنه وقت الأزمات الطارئة، فامر أن يقام معسكر تدريب لطلبة المدارس مدته سنة دراسية كاملة تكون هذه الشبيبة المحصلة للتدريب الأولي سندا للجيش الوطني عند الأزمات، حيث ترجمت أوامره إلى واقع حي وتمت زيارة مدرسة جابر بن حيان الثانوية فقط وهي المدرسة الثانوية الوحيدة آنذاك من قبل ضباط الجيش للاختيار ثم الاختبار للراغبين من فئة الثاني الثانوي في الانضمام واللائقين صحياً، وكان العدد لا يتجاوز 150مشاركا، وكان هذا مطلب وزارة الدفاع، كما إن الأمر لم يكن إجباريا وسمي هذا النظام بالانضباط العسكري لطلبة المدارس الثانوية.

 كان ذلك في عام 1978 1979 باكورة بدء التدريب كدفعة (دورة) أولى ما بين معسكر غلا ومعسكر المرتفعة وحسب ما أفادني أحد الطلبة المشاركين فإن العدد لم يصل إلى الرقم المطلوب.

أما الدورة الثانية للانضباط فكانت في عام 1979 – 1980، وكاتب هذه السطور من كان من الرعيل الثاني المشارك والمنضبط في تدريبات الانضباط العسكري لطلبة المدارس، وكان الانضباط اختياريا لا إجباريا، على أن يكون برنامج التدريب يومي الأحد والثلاثاء من كل أسبوع، كانت ترتيبات التدريب واللوجستيات المصاحبة معدة ومجهزة من قبل وزارة الدفاع، كوسيلة نقل وتوفير مستلزمات التدريب من اللبس العسكري (يشمل بنطلون أخضر داكن وقميص ومصر)، أما وسيلة النقل فكانت سيارات بيدفورد التابعة للجيش السلطاني العماني تقف أمام مبنى القسم الداخلي لطلبة مدرسة جابر بن زيد الثانوية، وكانت الحصص المدرسية 4 حصص بدل 6 في أيام التدريب، وكان برنامج التدريب للسنة الثانية أوسع من الدورة الأولى من حيث حصص التدريب، بحيث كنَّا نذهب إلى غرفة سفرة الطعام التابعة للقسم الداخلي لنتناول غداءنا، الذي كان عبارة عن صحن عيش (رز) مع صالونة السمك أو اللحم، وهكذا طيلة مدة الدورة العسكرية، كل هذا على نفقة وزارة الدفاع، وبعد الانتهاء من وجبة الغداء نصعد إلى السيارة مباشرة متجهين إلى معسكر غلا للتدريب وكسب مهارة اللياقة البدنية وكيفية المشي العسكري وفي نظام الطابور العسكري والتدريب العملي كالزحف على الكوعين وسط الأسلاك الحديدية ثم القفز من فوق النَّار والتدريبات العسكرية الأخرى كالطلوع على الحبال المخصصة لتدريب الجنود المستجدين التي يحتاجها الجندي المستجد في الجيش لصقل مهارات التمرينات التي يحتاجها الجندي في المعارك، كل هذا مدته الزمنية  ساعتان، وبعد الانتهاء كنَّا نصعد سيارة بيدفورد ونرجع إلى المدرسة ونستقل سياراتنا الخاصة ثم نذهب إلى بيوتنا وقد قارب وقت المغرب. والحقيقة التي يجب أن تُذكر أنَّ القائمين على تدريباتنا من المدربين العُمانيين كانوا يتحلون بأخلاق رفيعة ويحترموننا جل احترام وود، مع أننا كنَّا مشاغبين أثناء التدريب (طيش شباب) وعند الانتهاء من التدريب كانوا يجلسون معنا ويشاركوننا الأحاديث وتبادل الآراء ويردون على استفساراتنا بكل أريحية. أما وقت التدريب فالوضع كان مختلفاً جداً واجتهاد وعقاب. أما قائد الانضباط فكان النقيب سعيد بن سالم السالمي، الذي أصبح فيما بعد بجهده وإخلاصه لوطنه برتبة اللواء الركن قائداً للجيش السلطاني العماني، شخصية خلوقة وذكية ومتواضعة وصارمة وقت التدريب.

لا زلت أذكر الجندي النظامي حميد (من محافظة الظاهرة، ولاية عبري) مسؤول تدريب كتيبتنا مع زميل له اسمه بلال، إن كانا على قيد الحياة ادعو لهما بالصحة والعافية وإن كانا متوفيين فالرحمة عليهما واسعة – كانا مُخلصين في واجباتهما وواجباتهما التدريبية تجاهنا متفانيين في التزاماتهما الوطنية والعسكرية، وهذا شأن العماني أصلا. وعندما قرر مسؤولو الدورة توسيع نطاق التدريب، أفادونا بأن معسكرا آخر لتدريبنا سيُقام في الجبل الأخضر، وذلك في شهر يناير من العام الجديد، وأن علينا أخذ موافقات الوالدين وسوف تكون مدة التدريب ما بين 35 أيام.

وعند موعد الخروج إلى الجبل الأخضر وليلتها بتنا في عنابر الجنود في معسكر المرتفعة وعند ساعة الانطلاق بعد أداء صلاة الصبح توجهنا فورا نحو السيارات وركبنا وكان الجو شاتياً مسقطيا، وكانت أولى وجهاتنا ولاية نزوى، نيابة بركة الموز، نقطة انطلاق الصعود، وبدأت رحلة الصعود إلى الجبل الأخضر من وادي المعيدن المشهور بعمقه وحجمه وطوله الممتد بامتداد البصر، يرافقنا ضابط ثانٍ كقائد للحملة حاملاً على ظهرة جهاز راديو لاسلكي متواصلا مع القيادة في معسكر المرتفعة، يزود القيادة عن حال سيرنا وأن الأمور تسير وفق الخطة المُعدة لا عراقيل ولا إخفاقات، وطبعا سير خطنا  كان حسب الخارطة المُعدة مع حمولة شنطة المعدات على ظهورنا مشمولة بكل احتياجاتنا من ماء ومأكل من المخبوزات وكنَّا أحياناً نجلس لأخذ الراحة وشرب الماء والأكل، وأثناء الاستراحة سألت الضابط هلال كيف انضممت إلى العسكرية؟، فردَّ على بأنه كان سائقاً مدنياً عند أحد التجار وسمع نداء فرصة الانضمام للسلك العسكري لحاجة الجيش للشباب العمانيين الطموحين. فسارع بالانضمام وحصل على دورة تدريبيه في بريطانيا، ومن خلال جهده ومثابرته في واجباته العسكرية نال ثقة المسؤولين فتمت ترقيته وأصبح ضابطا في الجيش السلطاني العماني، وأبدى فخره بذلك. بعد أن أخذنا قسطا من الراحة بدأنا المسير نحو الجبل الأخضر وقد قارب وقت المساء وبدأت بعض أعراض الإجهاد تظهر على الشباب فأُحِضرتْ الطائرة العمودية ونقلت المجندين المرهقين وأوصلتهم إلى الموقع المخصص لنا على الجبل، وعند الساعة السادسة مساء وصلنا الجبل فرحين بهذا الإنجاز العظيم أخذنا قسطًا من الراحة وأدينا فرائضنا ثم أعُدت لنا وجبة العشاء وبعد الانتهاء من وجبة العشاء بدا المشوار الثاني من التدريب الليلي والجو يزداد قساوة كلما تأخر الليل علينا، حتى إنه من شدة البرد الشديد تقشرت وجوهنا من الجفاف كوننا لم نألف مثل هذا الجو القارس في مسقط، الثلوج مغطية أرضية الجبل ودرجة الحرارة تحت الصفر، لكننا كنَّا مسلحين بملابس عسكرية ثقيلة.

 حدد لنا مكان المناورة الليلية وتم توزيعنا حسب الكتائب المشاركة وبدأت المناورة وهي عبارة عن مسرح توضيحي تعريفي في كيفية مباغة العدو واكتشاف موقعه المخفي من خلال إطلاق رصاص حي مصحوباً بطلقات ضوئية ترشدك إلى الهدف المقصود، مده المناورة كانت ساعة واحده لمدة 3 أيام متتالية، ولقد شاركنا في رحلة الجبل مدير المدرسة الأستاذ لطفي فرحان المُلقب بأبي حاتم في رحلة الجبل، لكنه لم يتحمل شدة البرد وأصيب بوعكة قوية، فسألت زميلي من باب المزاح وبوجود الأستاذ حاتم، مديرنا مريض بوكعة، فأجاب بأنه يعاني من خفقان في المَعِدة، فضحك أبو حاتم وهز رأسه. أما وقت العصاري فكنا نلعب كرة القدم والطائرة بمشاركة الجنود والضباط المتواجدين والمدربين. انتهزنا فرصة غياب الضباط الكبار واستخدمنا مرافقهم ولما علموا بالأمر صبوا علينا العقاب العسكري وهو عبارة عن الماراثون حول الملعب أو تدريبات بدنية قاسيه بدون الوقت المحدد. 

انتهت مهمة الجبل الأخضر ورجعنا أدراجنا مشياً كما صعدنا حتى وصلنا نقطة انطلاقتنا من وادي المعيدن وركبنا سيارات البديفورد حتى وصلنا إلى المدرسة ثم أخذ كل منَّا سيارته وذهب إلى بيته وفي الصباح كعادتنا حضرنا للمدرسة واستحضرنا الدروس المعتادة، ثم ذهبنا إلى معسكر المرتفعة حسب الجدول المعتاد، وقد قاربت أيام التدريب على الانتهاء، وكذلك العام الدراسي، وفي الأيام الأخيرة قبل التخرج بدأت وجوه عسكرية جديدة تظهر في ساحة الميدان (التدريب) لتدريب الفصل النهائي وطابور التخرج، وقد زارنا صاحب السُّمو السيد أسعد بن طارق بلباسه العسكري، وكان يأتينا للاطلاع على سير التدريب وذلك بعد الانتهاء من دوامه الرسمي، وأملى علينا نصائحه وإرشاداته لنكون سندا للجيش والوطن والسلطان.

لن أنسى عبارته الوطنية التي قالها “عندما عَرفتُ أن طلبة مدرسة جابر بن زيد يتدربون هنا في المعسكر أتيت فوراً لأراكم وأنتم أبنائي وأحثكم على الانضمام إلى الجيش السلطاني العماني، أنتم فخر لهذه البلاد ومستقبلها الموعود، وإن انضمامكم للسلك العسكري أسمى الإخلاص والتفاني والإيمان في حب الوطن، بوركتم ووفقكم الله وإن الجيش السلطاني ينتظر انضمامكم”.

لن أنسى يوم التخرج، اليوم الموعود ونحن في كامل زهوتنا وقد عُلقت بعض الشرائط الرُتبية الرمزية على ازنادنا. بدء الطابور باستعراض عسكري وسط حضور كبار مسؤولي الدولة، وتم توزيع الهدايا التذكارية من دروع مختلفة الأشكال على بعض الطلبة مع شهادات التخرج بتوقيع اللواء الركن سالم بن عبدالله الغزالي وكيل وزارة الدفاع وكان هذا في عام 1980.

                  حفظ الله عُماننا وشعبها الوفي وسلطاننا المعظم

 

 

شاركها.