عبدالوهاب البلوشي

في ظهيرة يوم حار من أيام يوليو، تعطّل هاتفي فجأة دون سابق إنذار، بحثت سريعاً عن أقرب محل لإصلاح الهواتف، فدلّني أحد الأصدقاء على محل صغير في أحد أزقة السوق القديم، يُقال إنه متميز في صيانة الهواتف المستعملة.

وصلت إلى المحل الصغير، فاستقبلني رجل ثلاثيني، بدا عليه التعب، لكنه قابلني بابتسامة بسيطة، كان هو نفسه صاحب المحل، يُدير المكان بمفرده، ويقوم بكل شيء: من البيع والشراء، إلى الصيانة، وحتى استقبال الزبائن، ناولته هاتفي وشرع في فحصه، وبينما كان يعمل، بادرته بالسؤال عن أحوال السوق والعمل.

فتنهد وقال: “بصراحة، الأوضاع أصبحت صعبة جدًا، آخر شيء كنَّا نحتاجه هو القرار الجديد من وزارة العمل”، فسألته مستغرباً “أي قرار؟”، فقال وهو يحاول فك غطاء الهاتف: “قرار إلزام المؤسسات الصغيرة بتوظيف مواطن عماني… القرار جيد من حيث المبدأ، لكن ما حد فكر فينا إحنا أصحاب المحلات الصغيرة. أنا صاحب السجل، وصاحب المحل، وأشتغل بيدي من الصباح إلى الليل، وبالكاد أغطي إيجار المحل، والكهرباء، والمصاريف، فكيف أجيب موظف ثاني وأدفع له راتب؟”.

فأجبته مستفسراً هل راجعت الوزارة وشرحت لهم وضعك؟

رد وهو يرفع نظره إليّ:” مررت عليهم أكثر من مرة. قلت لهم إني أشتغل لحالي، وما عندي شغل يكفي حتى أدوّر شخص يساعدني، لكن الموظف هناك قال لي: لازم تتوسع، وبالتالي تحتاج موظف ثاني يساعدك! قلت له: زين لو في شغل كثير… لكن أنا من حال لحال أغطي المصاريف، والرزق على الله”. سكت للحظة ثم أضاف بصوت منخفض فيه شيء من القلق: “قالوا لي أمامك مهلة ستة أشهر إلى سنة، وخلالها بيدرسوا الحالات المشابهة، بس أنا عايش في توتر. أخاف يفرضوا عليَّ غرامات، أو أضطرّ أن أغلق المحل. والله يا أخي ما أعرف كيف الأيام الجاية راح تكون”.

 

نظرت إليه وهو يعيد تركيب هاتفي، ولم أعد مهتمًا بالعطل بقدر ما شعرت بثقل القرار على كاهله.

خرجت من المحل وأنا أفكر كم صاحب محل بسيط يعيش نفس هذا القلق؟ وكم مشروع صغير يمكن أن يُغلق لأنَّ أحدًا لم يستمع لصوتهم؟

خرجت من محل الهواتف وقلبي مثقل بالحيرة، كان واضحًا أن صاحب المحل ليس متهاونًا أو متحايلًا، بل رجل بسيط يسعى لكسب رزقه بكرامة. شعرت أن من واجبي كمواطن أن أنقل هذه الصورة لمن بيده القرار، ليس اعتراضًا، بل بحثًا عن فهم وتوضيح.

في اليوم التالي، رتبت موعدًا مع أحد المسؤولين في وزارة العمل. استقبلني بودّ وتفهّم، واستمع باهتمام لما نقلته من قلق صاحب المحل. جزاه الله خيرًا، لم ينظر للموضوع ببيروقراطية جافة، بل قدّر حرصي وحرص كثير من المواطنين على فهم الأمور بشكل صحيح.

قال لي: “الوزارة لم تهدف إطلاقًا إلى الإضرار بأصحاب المحلات الصغيرة الذين يعملون بأنفسهم، بل على العكس، نحن نريد دعمهم وتشجيعهم. القرار لا يُطبق بشكل أعمى. وقد أوضحنا من البداية أن أصحاب الأنشطة الصغيرة الذين يثبتون أنهم يشكلون قيمة مضافة، لن يتأثروا بالقرار.” ثم فصّل قائلاً:” يعني من يملك محلًا ويعمل فيه بنفسه، ويدفع الإيجار بشكل نظامي عبر عقد إيجار موثق، ويقوم بتسجيل الفواتير بطريقة صحيحة، وملتزم بالضرائب، ولا يمارس التجارة المستترة… هؤلاء مستثنون عمليًا من الإلزام الفوري، بل بالعكس، ندرس حالتهم بعناية.” خرجت من اللقاء وأنا أحس بقدر من الطمأنينة، وعقدت العزم على العودة لصاحب المحل لأبلغه بما سمعته.

في اليوم التالي، عدت إليه. كان مشغولاً بتغيير شاشة لهاتف آخر، لكنه ما إن رآني حتى ابتسم وقال: “رجعت؟ “شكلك جايب لي أخبار.” فجلست بجانبه وقلت له ما أخبرني به المسؤول، وأن الوضع ليس بالسوء الذي تتوقعه، بشرط أن يكون كل شيء عنده مرتب وواضح. تنفس الصعداء، وقال: “الحمد لله… بس والله يا أخي المفروض هذه الأشياء تتوضح من البداية. لما يجي قرار كبير مثل هذا، الناس تفهمه كلٌّ على طريقته، وهذا يسبب خوفاً وبلبلة بين أصحاب المحلات.”

ثم تابع بنبرة فيها عتاب: بالمناسبة، وين غرفة تجارة وصناعة عمان؟ أليست هذه مسؤوليتهم؟ لماذا لا يكون لهم دور في توضيح مثل هذه القرارات؟ المفروض أن يكونوا صوتنا، ينقلوا وجهة نظرنا، ويحمونا من أي قرارات قد تضر بالتجارة، خاصة أصحاب المشاريع الصغيرة.

هززت رأسي موافقًا، وأدركت أن المشكلة لم تكن في القرار بحد ذاته، بل في طريقة إعلانه وفهمه، وفي غياب جسر التواصل الفعّال بين الجهات المسؤولة والتاجر الصغير الذي لا يملك صوتًا في الإعلام أو المجالس.

خرجت من المحل للمرة الثانية، وهذه المرة، لم يكن الهاتف هو الذي أصلحته… بل شيئا أعمق: رؤية أوضح لما يجري في زوايا التجارة البسيطة، حيث يكافح الناس في صمت، منتظرين فقط من يسمعهم، ويفهمهم، ويوضح لهم الطريق.

شاركها.