اخبار تركيا

تناول مقال تحليلي للكاتب والصحفية المصرية صالحة علام، التحول في الموقف الأمريكي تجاه الملف السوري، خاصة ما يتعلق بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومشروعها السياسي الانفصالي في شمال وشرق سوريا.

ويسلط المقال الذي نشره موقع الجزيرة مباشر الضوء على تصريحات المبعوث الأمريكي لسوريا وسفير واشنطن لدى أنقرة توماس باراك، التي أكدت تخلي واشنطن عن دعم إقامة كيان كردي مستقل، ودعمها لوحدة الأراضي السورية تحت سلطة مركزية واحدة.

كما عرضت الكاتبة كيف استجابت “قسد” لهذا التحول بتغيير خطابها السياسي، وإبداء استعدادها للاندماج ضمن مؤسسات الدولة السورية، مبرزة ردود الفعل الإيجابية من كل من دمشق وأنقرة تجاه هذا الموقف الأمريكي الجديد.

وفيما يلي نص المقال:

“دولة واحدة، أمة واحدة، جيش واحد” هذه هي رؤية الولايات المتحدة الأمريكية للدولة السورية الجديدة، وهي الرؤية التي عبّرت عنها بوضوح تام التصريحات الصادرة عن المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا، وسفير واشنطن لدى تركيا توماس باراك، الذي أصبح المسؤول الأول عن عرض وجهة نظر الإدارة الأمريكية في كل ما يرتبط بصورة مباشرة بالأوضاع في سوريا على الصعيدين الداخلي والخارجي.

وهو الموقف الذي يشير بوضوح كامل إلى تخلّي الرئيس دونالد ترامب وفريقه عن كافة الوعود التي سبق أن قطعها سلفه الرئيس السابق جو بايدن وإدارته لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الخاصة بمساندتهم في إقامة كيان خاص لهم، يتمتعون فيه بإدارة ذاتية تحت حكم فيدرالي، بعيدًا عن الدولة المركزية في دمشق.

نهج جديد يتبعه الرئيس الأمريكي تجاه الإدارة السورية والقائمين عليها، مخالفًا فيه سياسة سلفه، لا يحتاج إلى إعادة تأويل أو تفسير مغاير لما هو ظاهر فعلًا في السياسة الأمريكية اتجاه الإدارة السورية، نهج يمكن رصده في الأقوال والأفعال الصادرة عن رموز إدارته.

فعلى صعيد الأقوال، تفيد كافة التصريحات، سواء التي يدلي بها باراك أو المسؤولون الآخرون، أن واشنطن أصبحت تدعم وبقوة خطوات الحكومة السورية الرامية إلى توحيد البلاد، وإقامة دولة مركزية قوية ذات سلطة مطلقة على كافة مناطقها الجغرافية وحدودها التاريخية المتعارف عليها، معلنةً رفضها المطلق دعم إقامة كيان كردي مستقل في سوريا، وأنها لا ترى في قوات “قسد” نواةً لمثل هذا الكيان المفترض.

توماس باراك طالب قوات “قسد” بضرورة التحرك وفق التطورات التي تشهدها المنطقة، والإسراع في عملية الاندماج العسكري في الجيش السوري الجديد، محذرًا من إضاعة هذه الفرصة، لما يمكن أن يسببه هذا من إشكاليات مستقبلية مع كل من أنقرة ودمشق، على الرغم من اعترافه ضمنيًّا بأن الاتفاق الذي وُقّع في مارس/آذار الماضي بين الجانبين ليس محددًا بما يكفي لضمان نجاح عملية الاندماج بالسرعة التي يطالب بها، وأن هذه المسألة تحتاج إلى مزيد من الوقت نتيجة غياب الثقة بين الطرفين.

وأعلن صراحة أن قوات “قسد” هي في الأساس فصيل مشتق من حزب العمال الكردستاني وهو ما كانت تؤكده أنقرة، وتنفيه إدارة بايدن مؤكدًا أن بلاده لا تدعم إنشاء دولة منفصلة لقوات “قسد” أو ما يسمى “كردستان الحرة” في سوريا، مشيرًا إلى عملية المصالحة التي تتم حاليًّا بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، وتخلي الحزب عن سلاحه، وإعلانه بدء مرحلة الكفاح السياسي ضمن إطار الدولة للحصول على ما يراه حقوقًا مهدرة أو منقوصة للأكراد، مطالبًا “قسد” باتباع نفس النهج في تعاملها مع الدولة السورية الجديدة.

وأوضح توماس باراك أن “تحالف الولايات المتحدة السابق مع ‘قسد’ كان بهدف القضاء على تنظيم داعش، ونشعر أنهم كانوا شركاء معنا في تحقيق هذا الهدف، نحن مدينون لهم لهذا السبب، لكن السؤال الأهم هنا: بماذا ندين لهم؟! بكل الأحوال لسنا مدينين لهم بحق إقامة إدارة مستقلة داخل دولة”، وأضاف “هناك تعاطف معهم في أوساط الكونغرس، لذا نسعى إلى دمجهم ضمن إطار الدولة السورية المركزية”.

وهي التصريحات التي تؤكد أن إدارة الرئيس ترامب ترى أن تعاون الولايات المتحدة الأمريكية مع “قسد” كان وسيظل تعاونًا عسكريًّا وأمنيًّا في إطار مكافحة الإرهاب، وتتبع عناصره فقط، وأنه لن يرقى إلى تعاون سياسي بأي حال من الأحوال، ومن ثم فإن الرهان على واشنطن لدعم ومساندة مشروع إقامة كيان كردي منفصل عن الدولة السورية يعد ضربًا من الخيال.

أما على صعيد الأفعال، فقد لوُحِظ انخفاضٌ هائل في حجم الدعم العسكري واللوجستي الذي اعتادت “قسد” تلقيَه من الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب إعلان واشنطن نيتها إحداث تغييرات جذرية في خريطة انتشار قواتها في المنطقة، وإعادة النظر في تموضع الموجودين منها داخل الأراضي السورية بما يساهم في الحفاظ على الأمن، ومنع تنظيم “داعش” من إعادة بناء نفسه مجددًا، مع التأكيد على تقليص عدد تلك القوات على مراحل.

ورغم الوضوح الذي يتسم به الموقف الأمريكي المعلن، فإن هناك من لا يزال يراهن على إمكانية مساندة أمريكا لإقامة فيدرالية كردية بشمال وشرق سوريا، ويرى أن واشنطن لم تعلن صراحةً تخلّيها عن قوات سوريا الديمقراطية، وأن التعاون بين الطرفين سيظل قائمًا في إطار التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن لمحاربة الإرهاب، وأن ذلك التعاون يمكن أن يتطور في مرحلة ما إلى دعم فعلي لتحقيق الحلم الكردي بإقامة كيان مستقل داخل سوريا في حال تغيّرت الظروف.

لكن “قسد” وإدارتها الذاتية في شمال وشرق سوريا كانتا أسرع في تلقّي الرسالة وفهم أبعادها ومغزاها، إذ أدركتا سريعًا الأسباب الحقيقية وراء التغير في الموقف الأمريكي، الذي تحركه الرغبة في الحفاظ على علاقات واشنطن بحليفتها وشريكتها في حلف الناتو تركيا، ومنع انهيارها.

إلى جانب السعي لبناء روابط جيدة مع الإدارة السورية الجديدة على أسس من الثقة المتبادلة لتحقيق المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، خاصة بعد أن أصبحت هذه الإدارة تحظى بإعجاب ترامب وفريقه، الذي يرى أن مستقبل سوريا يجب أن يتم تحديده عن طريق حوار وطني شامل، وتوافق مختلف القوى الفاعلة على الأرض، وليس عبر كيانات ترغب في فرض أمر واقع على الجميع.

وانطلاقًا من هذا الإدراك، غيّرت “قسد” من أسلوب خطابها الإعلامي، ومواقفها المتشددة المعلنة، متبنيةً مصطلحات أكثر إيجابية ومنطقية تتوافق مع التطورات على الأرض، إذ أعربت في بيان لها عن شكرها لكل من واشنطن وباريس لدعمهما المستمر لها، لكنها في إطار توضيح موقفها أكدت أن التنوع في سوريا لا يُعد تهديدًا، بل مصدر قوة، وأن وحدة الأراضي السورية مبدأ لا يمكن المساومة عليه، رافضة أي مزايدة من شأنها تقويض فرص الحل السياسي.

وطالبت بالعمل على استعادة الثقة بين الفاعلين السوريين، وإقرار نظام ديمقراطي متعدد، وعدالة اجتماعية، ومساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، وبدء صياغة دستور جديد يضمن لجميع مكونات المجتمع السوري كافة الحقوق السياسية والمدنية، معلنة استعدادها للاندماج في مؤسسات الدولة، والمشاركة بإيجابية في صياغة دستور جديد يُلبي تطلعات السوريين بمختلف توجهاتهم الإثنية والعرقية.

أنقرة من جانبها أعربت عن عميق ارتياحها لتغير نهج السياسة الأمريكية اتجاه قوات سوريا الديمقراطية، خاصة بعد تأكيدات مسؤولي البنتاغون التي أفادت أن “التعاون مع قسد لا يعني إطلاقًا دعم مشروعها السياسي المنفصل”، معتبرةً هذا الموقف تحوّلًا واقعيًّا من جانب واشنطن يهدف إلى إعادة إرساء السلام والأمن في المنطقة، ويساهم في بناء مستقبل مشرق للدولة السورية الموحدة بعيدًا عن خطط التقسيم التي يتم الترويج لها إعلاميًّا.

كما ثمّنت دمشق الموقف الأمريكي الذي أعلن أن الفيدرالية لا تناسب الدولة السورية، ولا تتوافق مع طبيعة شعبها، وأن تحقيق الأمن والاستقرار داخل سوريا يجب أن يتم عبر اعتماد نظام الدولة المركزية مع الحفاظ على حقوق جميع أبناء الشعب السوري.

تحتاج قوات سوريا الديمقراطية في المرحلة الحالية إلى إعادة النظر في تحالفاتها الإقليمية والدولية، وتنظيم أمورها الداخلية على الصعيدين السياسي والعسكري، وهيكلها الإداري، وإدراك أن لا عداوات دائمة، ولا صداقات أبدية، وأن بعض الأحلام غير قابل للتنفيذ على أرض الواقع.

شاركها.