غزوان قرنفل

لا يكفي أن تكون على حق، الأهم أن تكون خياراتك صائبة لتحصل على هذا الحق. الخيارات الصائبة لا تأتي بالإلهام أو التخاطر، بل بسعة الاطلاع وعمق التجربة وتوسيع مساحة المشاورة وإدراك اللحظة أو التوقيت المناسب لاتخاذ هذا الخيار أو ذاك.

الخيار الخاطئ ربما يقودك إلى طريق مغاير لما تريده أصلًا، لكنك مع الأسف تكتشف متأخرًا أنه طريق باتجاه واحد، وهو ليس الخيار الأمثل للسير فيه لكنه الآن الطريق الوحيد المتاح والمتصل بهذا الخيار، فتضطر لاستمرار السير فيه على أمل أن تجد منه مخرجًا.

والحقيقة أن قرار التفرد والاستئثار بالسلطة وممارسة سياسة إقصاء الجميع عن المشهد العام، تحت مقولة متهافتة إن “من يحرر يقرر”، كان أحد أبرز الخيارات الخاطئة التي اتخذتها السلطة الحاكمة، ثم وفي محاولة لتزييف الوعي، حاولت إكساء سلوكها هذا بعض مشروعية مفترضة عبر كرنفال “الحوار الوطني”، لكنها ما لبثت أن انزلقت إلى وضع حجر الأساس لمنظومة سلطوية مغرقة في فرديتها وتفردها، عبر إصدارها إعلانًا دستوريًا أقل ما يمكن توصيفه هو أنه مجرد هرطقة دستورية صيغت لتنصيب فرعون جديد، مطلق السلطة والصلاحية، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كحاكم لسوريا التي للتو نفضت غبار حربها مع أعتى دكتاتورية في المنطقة.

إقصاء وتهميش المجتمع بكل مكوناته وإعادة بناء منظومة سلطة استبدادية جديدة مقرونة بالكثير من السلوكيات “الفردية” المنفّرة، واحتلال الفضاء الحكومي والإداري من قبل “المشايخ” وأنصارهم، مقرونًا بقرارات فصل عشوائية بحق وبباطل من العمل وإغلاق المؤسسات الحكومية لآماد طويلة بلا أي مبررات تستوجب ذلك، في محاولة بدت وكأنها تفكيك حتى للبنية الإدارية والمؤسسية للدولة، لمجرد أن السلطة لا تملك الكم العددي من الكوادر المهيأة لشغل إداراتها. يضاف إليها إبرام صفقات مليارية هنا وهناك دون أي رقابة مؤسسية، ودون أدنى احترام للموجبات والآليات القانونية المتبعة عادة وأصولًا في مثل تلك التعاقدات. كل ذلك أكمل رسم ملامح المشهد السلطوي للدولة القادمة في أذهان الكثير من السوريين من مختلف الانتماءات، ممن لم تسكرهم نشوة النصر وسقوط سلطة الاستبداد الأسدي المديد، فأدركوا ما لم يدركه أغلب أولئك الذين لا يزالون في غيبوبة الانتشاء بالنصر والظفر بالسلطة، التي قرروا، بوصفهم سنة من سلالة بني أمية، أن تبقى بين أيديهم إلى يوم القيامة!

توسل المشروعية من الخارج وحده لا يسهم في بناء سلطة وطنية، بل يبني سلطة وظيفية لا أكثر، السلطة الوطنية تحتاج إلى مشروعية وطنية، والمشروعية الوطنية لا تتأتى إلا من التوافق على مشروع وطني يلم شمل شتات السوريين على رؤية وهوية وطنية يشعر كل منهم أنه جزء منها، وأنها تعبر عنه وعن حقوقه في المواطنة المتساوية وفي تكافؤ الفرص.

المشروعية الوطنية لأي سلطة لا تُمنح بالمجان، بل لها ثمن لا بد من أدائه للناس، هذا الثمن هو احترام الحريات العامة وعدم دس الأنوف في تفاصيل حياة الناس. هو كذلك احترام الدستور والحقوق الدستورية التي يتم التوافق عليها، واحترام حق الشراكة الوطنية في الحكم والإدارة والثروة الوطنية والتنمية الاقتصادية، واحترام مبدأ التداول السلمي للسلطة، وقبل كل ذلك وبعده احترام حرمة الدم الذي إن سفح يسقط كل شرعية وأي مشروعية.

صحيح أن واقع حال المنطقة عمومًا، وليس سوريا وحدها، يخبرنا كل يوم أن الكلمة العليا في وجود أو غياب أي رئيس أو سلطة لا يزال رهين قرار الفاعل الدولي إلى حد كبير، لكن ذلك أبدًا لا يلغي أهمية ووزن قرار الداخل في منح أو حجب الشرعية عن الحاكم أو السلطة الحاكمة، ولا يلغي أن هذا الفاعل الخارجي مهما بلغ تأثيره سيبقى بحاجة بشكل أو بآخر، وبمستوى أو بآخر، إلى شرعية الداخل ومدى قدرته على الضغط والفعل.

اليوم ورغم المقتلة التي سفح فيها دم كثير من أبنائنا في الجيش والأمن العام وأبنائنا في السويداء بلا سبب ولا طائل، والتي أحمّل مسؤوليتها في المقام الأول للسلطة التي نحّت لغة العقل وغيّبت لغة الحوار وتفهم الهواجس والمخاوف والمطالب، ولجأت لسياسة الإخضاع لحفظ “هيبة الدولة”، فكانت النتيجة مشهدًا دمويًا مروعًا، وشرخًا مجتمعيًا ليس من اليسير رأبه، وسقوطًا مهينًا للهيبة الوطنية المتوسلة.

على أي حال، صحيح أننا على عتبة نفق مظلم ومدمر الآن، لكن لا يزال قرار ولوجنا فيه أو خروجنا منه متاحًا بأيدينا، ومن الحكمة والفطنة إدراك الخيار الصحيح واتخاذ القرار باتباعه.

والحكمة اليوم تقتضي وضع السوريين جميعًا أمام مسؤولياتهم، والدعوة لمؤتمر حوار وطني شامل ومعمق توضع فيه كل القضايا والملفات على الطاولة للتوافق على بناء الوطن السوري الذي يقر فيه كل السوريين أنه وطن نهائي لهم جميعًا، هم شركاء فاعلون في رص بنيانه حجرًا فوق حجر وبالشكل الذي يستجيب لموجبات الشراكة في البناء والنماء، ووفق آليات دستورية مغايرة لما هو موجود، وفي إدارة شؤون الدولة وإداراتها ومؤسساتها وتوسيع هوامش وصلاحيات المحافظات في إدارة شؤونها بنفسها عبر مجالس حكم محلية تشمل حتى انتخاب محافظيها من أبناء المحافظة نفسها، وإدارة شؤونها الأمنية المحلية بنفسها رغم تبعيتها لوزارة الداخلية وفق قانون واضح يفصل ذلك، وأن تحصل كل محافظة على حصتها العادلة من الثروة ومن فرص التنمية الوطنية، وذلك لا يلغي أبدًا دور العاصمة في الإشراف على عموم البلاد وشؤونها ودورها في إدارة شؤون الدفاع والأمن الوطنيين، وفي إدارة الثروة والموارد الوطنية بما يحقق التنمية المتوازنة على المستوى الوطني، ولا ينتقص من حقها في التمثيل القانوني والدبلوماسي وإدارة العلاقات الدولية للدولة السورية.

اليوم لم يعد متاحًا للسوريين ترف اختبار وتجريب الخيارات، لأن ثمن الخيارات الخاطئة دم يجب أن يكون محرّمًا، وعقود من الاحتراب لا قدّر الله، فإن كانت سوريا لا تقبل القسمة فيجب بالمقابل ألا تقبل الاستحواذ والاستئثار والاستفراد بها من فريق دون باقي السوريين. سوريا التي تقبل الشراكة، هي وحدها سوريا القابلة للاستمرار، وهي الخيار الصائب الوحيد.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.