محمد بن علي البادي (أبو خالد)

 

في لحظةٍ مظلمة من تاريخ البشرية، وتحديدًا في عام 1948، وُلد الكيان الصهيوني على أرض فلسطين؛ لا بوصفه دولة طبيعية، بل كغرسةٍ استعمارية زُرعت فوق جراح شعبٍ أعزل، وعلى أنقاض مدنٍ دُمِّرت، وقرى أُبيدت، وأرواحٍ شُرِّدت قسرًا.

لم يكن ذلك إعلانًا لقيام دولة، بل إيذانًا ببدء نكبةٍ لم تنتهِ، ومأساةٍ ما زال صداها يتردّد في كل بيتٍ فلسطيني، وفي وجدان كل إنسانٍ حرّ.

منذ تلك اللحظة، لم تعرف المنطقة هدوءًا، ولا العالم استقرارًا. شُرّد الفلسطينيون من وطنهم، وجُلبت جماعات يهودية من شتّى بقاع الأرض ليُوطَّنوا قسرًا في أرضٍ ليست لهم.

ولم يتوقف المشروع الصهيوني عند اغتصاب فلسطين، بل تمدد كالسرطان ليطال أراضي من مصر، وسوريا، ولبنان، والأردن.

وقد أشعل هذا التمدد الاستعماري عدة حروب، ما تزال آثارها قائمة حتى يومنا هذا، رغم اتفاقيات “السلام” التي وُقّعت مع بعض الدول.

فالجولان السوري لا يزال رازحًا تحت الاحتلال منذ عقود، في انتهاكٍ صارخٍ للقانون الدولي، بينما تواصل إسرائيل عدوانها السافر على العمق السوري، عبر غاراتٍ جويةٍ تكاد لا تتوقف، تستهدف مواقع في محيط العاصمة دمشق ومناطق أخرى، مستغلةً الانهيار الداخلي الذي شهدته سوريا منذ الحرب، وسقوط مركز القرار الوطني فيها.

وقد تحولت الأراضي السورية إلى ساحة مفتوحة أمام الطيران الصهيوني، في مشهد يعكس اختلال موازين الردع وتراجع الدور العربي.

وفي الجهة الأخرى، يتعرض الجنوب اللبناني أيضًا لقصفٍ شبه يومي، وتهديداتٍ متواصلة من الاحتلال، في محاولةٍ لجرّ المنطقة إلى جولاتٍ جديدة من التصعيد والدمار.

وفي قلب هذا المشهد الملتهب، تظلّ فلسطين تنزف كجرحٍ مفتوح، ينمو حوله الاحتلال كسرطانٍ خبيث، لا يكتفي بالتمدد، بل يتغذّى على معاناة الناس وأشلاء الأبرياء.

أما الشعب الفلسطيني، فما زال يعيش في المنافي، محرومًا من أبسط حقوقه، في مشهدٍ مأساوي مستمر منذ أكثر من سبعة عقود.

وهنا يبرز سؤالٌ مشروع:

لماذا فُرض على فلسطين وحدها أن تدفع ثمن المأساة اليهودية؟

لماذا لم تُجمَع الجاليات اليهودية في الدول الغربية التي ارتُكبت فيها الجرائم بحقهم؟

ولماذا اختيرت فلسطين بالذات، وهي التي لم تكن طرفًا في تلك الأحداث أصلًا؟

الجواب واضحٌ كالشمس: لقد أراد الاستعمار الغربي زرع كيانٍ غريبٍ في قلب الأمة العربية، ليفصل المشرق عن المغرب، ويمنع وحدة الشعوب، ويخدم مصالحه الاستراتيجية في تمزيق المنطقة والسيطرة على مقدّراتها.

وقد حظي المشروع الصهيوني بدعمٍ غير محدود من قوى الاستعمار: بالمال، والسلاح، والإعلام، حتى قامت “دولة” على أنقاض وطن، وشُرِّد شعبٌ بأكمله تحت أنظار العالم.

وفي خضم هذا المشهد القاتم، يستمر حصار غزة وتجويعها وكأنهم في زنزانة بداخلها مليوني شخص بلا ماء كافٍ، ولا دواء، ولا منفذ للعالم.

إن القضية الفلسطينية لم تكن يومًا صراعًا على الأرض فحسب، بل هي قضيةٌ إنسانيةٌ تبحث عن ضميرٍ عالميّ.

لكن المؤسف أن الغرب لم يكن وحده من منح هذا الكيان شرعيته، بل إن بعض الأنظمة العربية اختارت طريق التطبيع، واهمةً أن في ذلك نهايةً للصراع.

غير أن التطبيع لم يجلب أمنًا ولا سلامًا، بل زاد من غطرسة المحتل. فازدادت الاعتداءات، وتوسّعت المستوطنات، وكأن الاحتلال تلقّى تفويضًا إضافيًا للاستمرار في جرائمه.

وأمام هذا الواقع، لا بد أن نواجه الحقيقة: إن تحرير فلسطين ليس مهمة دولةٍ واحدة، فالكيان الصهيوني يحظى بغطاءٍ دولي واسع، تتصدره الولايات المتحدة، التي ترعاه كـ”ابنة مدلّلة”، وتدعمه ماليًا وعسكريًا وسياسيًا بلا مساءلة.

أما غالبية الدول العربية، فقد باتت أسيرة تحالفاتها، تتردّد وتتراجع، وكأن القرار لم يعد بيدها.

ورغم مرور العقود وتغيّر الأنظمة، تبقى فلسطين الجرح المفتوح في قلب الأمة، وعنوانًا دائمًا لكل ضميرٍ حي.

فالقضية ليست مجرد حدودٍ على خريطة، بل كرامةٌ تُنتهك، وحقٌّ في الحياة يُغتصب.

والمقاومة، رغم كلفتها الباهظة، تبقى الطريق الوحيد لردع الاحتلال واستعادة الأرض والكرامة، فالمحتل لا يرحل طوعًا، والحقوق لا تُمنح، بل تُنتزع.

لقد بات جليًا أن المقاومة هي السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، بعدما أثبتت التجارب المتكررة أن كافة المسارات الأخرى، من مفاوضاتٍ وتسويات، لم تثمر إلا المزيد من التنازلات والانكسارات.

وعلى الدول العربية والإسلامية أن تنهض من سباتها، وتعيد ترتيب أولوياتها، فدعم المقاومة ليس فقط واجبًا دينيًا أو قوميًا، بل هو قبل كل شيء واجبٌ إنسانيٌ وأخلاقي.

فما يجري اليوم ليس مجرد صراعٍ مسلح، بل معركة على الوعي، والكرامة، ومصير أمة بأكملها.

ومن ينصر فلسطين، إنما ينصر إنسانيته أولًا، ويقف في صف العدالة، في عالمٍ ضاعت فيه المبادئ تحت أقدام المصالح.

 

شاركها.