صالح بن سعيد الحمداني
الإنسان بطبيعة حاله يظل يبحث عن الجمال الحقيقي في وسط عالمٍ يموج بالمتغيرات ومتقلبات الحياة اليومية ويضجّ بالصراعات ويعيش باحثًا عن ذلك الجمال الذي رسمه في مخيلته، حيث يراه لا تحدّه الأشكال ولا تحجبه تلك الظروف مهما بلغت ذروتها، ولا تُطفئه خيبات الواقع المرير، وبين متغيرات الحياة تتغير المعايير باختلاف الثقافات وتعدد الرغبات تبقى حقيقة واحدة راسخة “من أحب الله رأى كل شيء جميلًا”.
هذه المقولة قد تبدو ويراها البعض ضربًا من المثالية، ويقول الآخر إنها من التبسيط، لكن حقيقتها وفي جوهرها تعكس لنا حكمة روحية عميقة، وتؤكد لنا تجربة وجدانية تُحدث تحوّلًا في نظرة الإنسان إلى الحياة، إن محبة الله هي الحياة وجمالها، فهي ليست مجرد مشاعر عابرة أو ألفاظ تُردّد على الألسن وأفكار تدور في الأذهان، بل هي حالة إيمانية عميقة تُريح النفس وتُبهج الروح وتُعيد ترتيب أولويات الإنسان في يومه، وتضبط بوصلته نحو الرضا والتسليم والتفاؤل، فمحبة الله هي جوهر التوازن النفسي، فعندما يمتلئ قلب الإنسان بحب الله يصبح للوجود وللسعادة طعم مختلف، فالقلوب العامرة بحب الله وبالإيمان فإنها لا ترى في البلاء إلا رفعة، ولا تجد في المصائب إلا فرصة للعودة إلى الذات، وكذا الحال في الناس، فلا تجد فيهم إلا مظاهر من صنع الله وجمال خلقه، وبهذه اخبار عمان وبهذا المنظور لا يكون الإنسان أسيرًا لمقاييس العالم المادية، ولن يكون منقادًا بشكل عشوائي خلف موازين البشر في الجمال والقبح والنجاح والفشل والنقص والكمال.
محبة الله بجمالها ومتعة الشعور بها تُزهر في النفس طمأنينة وراحة وسكينة، ودائما ما تجعل من أعين صاحبها عدسة مختلفة جميلة تتمتع وتنظر للحياة بجمالها الفاتن من زاوية الامتنان لا الامتعاض، ومن ركن الرضا لا السخط، فدائما يجد كل من أحب الله الخير في كل شيء، والجمال في كل شيء، فلا يرى في المطر المتواصل إلا بركة وخيرا للجميع، ولا في الفقر إلا ابتلاءً كريمًا، وإن رزق الله واسع، ولا في فقد العزيز إلا طريقًا للرجاء بلقاءٍ أجمل في دار لا فناء فيها، القناعة والإيمان كنز عظيم يرى المحب رؤية الجمال في كل شيء وهذا أثر الحب الإلهي.
فالإنسان حين تسكن محبة الله أعماق نفسه، ويستشعر جمالها، لا يعود بحاجة إلى امتلاك كل شيء ليشعر بالاكتمال، فهو يرى الجمال في ذلك الطفل الذي يبتسم في السكة، وفي شيخ عجوز يدعو الله في صمت، وفي شجرة يراها أمامه تنحني بفعل الريح، وفي كتاب يُقرأ في زاوية هادئة، وفي صلاة تُقام بينه وبين الله بعيدًا عن أعين الناس.
الإنسان الفطن يرى في كل ذلك الجمال، فالجمال هنا ليس شكلًا، بل شعور، وهو شعور لا يكتمل إلا بمحبة الله؛ فكل ما في الكون يصبح انعكاسًا لقدرته، وكل حدث في حياتنا وزماننا سواء سرّ الإنسان أو أحزنه يصبح فرصة لنا بني آدم لفهم الرسالة الإلهية الكامنة خلفه، وحتى القبح الظاهري حين يُنظر إليه بعين المحبة والرضا يتحول إلى شكل من أشكال الجمال المتخفي الذي يحتاج إلى بصيرة تدركه، لا مجرد بصر، فالحب الإلهي طريق إلى حب الذات والآخر.
نعم فإن من أحب الله سبحانه وتعالى أحب خلقه، ومن أحب الخلق نظر إليهم بعين العذر والرحمة، لا بعين الحكم والاحتقار، فالمؤمن الحق، التقي في نفسه، المحب لربه، لا يتكبّر على خلق الله، ولا يستعلي عليهم، بل يفيض على من حوله بما امتلأ به قلبه من نور وبصيرة ورحمة، وهو لا يرى في الناس منافسين له على الدنيا وزينتها، بل هم شركاء له في رحلة الابتلاء والرجاء، وحتى نفسه حين يحب الإنسان ربّه سبحانه وتعالى يراها أكرم مما يظن، ويرى في ضعفه البشري فرصة للقوة بالتوكل على الله، ويكون موقنًا أن كل خير من الله، ويرى في خطاياه حافزًا للتوبة، وفي عثراته وقفات طيبة لتصحيح الطريق.
ولكن السؤال الذي يدور في الذهن، كيف نصل إلى هذه المحبة؟
إننا ندرك تمامًا أن محبة الله ليست شيئًا يُنال بكثرة الكلام أو الادعاء، بل هي ثمرة الإخلاص الصادق لوجهه، ونتيجة المجاهدة ونتاج القرب منه سبحانه وتعالى بالطاعة والدعاء والصدق واليقين التام، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “المحب لا يمل من مناجاة محبوبه، ولا يشبع من ذكره، ولا يأنس بسواه”.
فإن من أراد أن يرى الجمال في كل شيء عليه أن يزرع في قلبه حب الله سبحانه، وليجعل من عبادته لله وسيلة لا عادة، ومن ذكره أنسًا لا تكرارًا، ومن دعائه حديثًا لا طلبًا فقط، ويدرك تمام الإدراك بأن الجمال الحقيقي يبدأ من الداخل.
يعلم الإنسان بأن من أحب الله رأى كل شيء جميلاً، ليس من منظور أن العالم تغير من حوله، بل لأنه هو من تغيّر من الداخل من أعماقه، فالقلب إذا صلح صلحت اخبار عمان، وتهذبت النفس، وارتقت بذاتها، وصار الإنسان مصدر نور أينما حلّ وارتحل، فهذه المحبة هي التي تصنع الفرق وتُزهر بها الحياة جمالًا، وهي التي تجعل من حياة الإنسان رحلة من الرضا والسلام وسطَ عالمٍ يملؤه الضجيج.