يواجه قطاع غزة أزمة مجاعة متفاقمة تهدد حياة أكثر من مليوني نسمة نتيجة الحرب المستمرة منذ أكتوبر 2023، والحصار الإسرائيلي المشدد، وانهيار منظومة الإمداد الغذائي، فيما تحذر المنظمات الدولية من وقوع كارثة إنسانية كبيرة إذا لم يُسمح بدخول المساعدات الإنسانية بشكل فوري وآمن ومستدام.
وأكد مواطنون من القطاع ومسؤولون طبيون في تصريحات لـ”الشرق”، أن الوضع في القطاع يزداد سوءاً، مع سقوط أشخاص في الشوارع بسبب نقص الطحين والخبز لأكثر من شهر، بالإضافة إلى تلوث المياه وغياب مقومات الحياة الأساسية، في ظل سرقة المساعدات وبيعها بأسعار مرتفعة.
كما حذرت هيئات إغاثية وطبية من ضغط هائل على المستشفيات التي تعمل بطاقة تزيد على 250%، مع نقص حاد في الموارد، واعتماد بعض الأقسام الطبية على الماء والملح فقط، ما يهدد بانهيارها الوشيك.
“مجاعة خانقة”
تشهد نقاط توزيع المساعدات اضطرابات وعنفاً متزايدين، بينما يعاني السكان من صعوبات شديدة في الحصول على الغذاء.
وقال عامر رياض (38 عاماً) وهو نازح من شمال غزة إلى خان يونس لـ”الشرق”، إن الحصول على الطعام أصبح شبه مستحيل، والأسعار في الأسواق مرتفعة بشكل كبير بسبب استغلال التجار للأزمة.
وأضاف عامر أن أسرته المكونة من 5 أفراد تحتاج يومياً إلى كيلوجرامين من الطحين، وكيلوجراماً من الطماطم، وكيلوجراماً من البطاطس.
وأضاف أن سعر كيلو الطحين وصل إلى 100 شيكل (حوالي 30 دولاراً)، وكيلو الطماطم تجاوز 80 شيكل (حوالي 25 دولاراً). وأوضح أن أقل وجبة تحضّر حالياً تكلف حوالي 40 دولاراً، دون احتساب الخبز.
وأشار عامر إلى أنه لا يوجد بديل، ما دفع الجميع إلى تقليل عدد الوجبات اليومية من 3 إلى وجبة واحدة فقط، بسبب عدم القدرة على تحمل تكلفة المزيد حتى مع دخول المساعدات.
وأضاف: “العائلات تنام جائعة في معظم الأيام، وأجساد الأطفال باتت هزيلة بسبب الجوع الشديد، ما اضطرهم لاستخدام أوراق التوت المحشوة بالبرغل كبديل للأرز، وهي حالة غير مسبوقة”.
وأوضح أنهم في بعض الأحيان باتو يلجأون إلى طحن العدس لصنع أقراص شبيهة بالبسكويت للأطفال، رغم طعمها السيئ وقلة قيمتها الغذائية.
فيما قالت “رجاء” (اسم مستعار)، (وهي نازحة من جباليا إلى دير البلح)، لـ”الشرق”، إن عملها الصحافي يمنحها أفضلية بسيطة لأنها لديها دخل مادي مقارنة بغيرها، لكنها بالكاد توفّر الحد الأدنى من الطحين لعائلتها.
وأضافت: “أحياناً لا أحصل إلا على رغيف أو نصف رغيف في اليوم، ومع ارتفاع الأسعار ونفاد المرتب، أعجز عن تأمين أغلب الأساسيات.”
وعن الواقع المرير الذي بات يثقل كاهلها وآلاف العائلات في القطاع، تصف “رجاء” يومياتها وكأنها معركة مفتوحة من أجل البقاء، وسط الجوع والخوف وندرة كل مقومات الحياة قائلة: “غالباً ما نأكل الُدقة أو الزعتر أو البندورة (الطماطم)، وأحياناً نلجأ للحلاوة الطحينية إن وجدت.. الطحين مفقود، والخضروات نادرة، أما القهوة والسكر والبروتينات فقد انقطعت منذ أشهر”.
وتضيف بأسى: “معظم من حولي فقدوا مصادر رزقهم، ولا يستطيعون شراء الطعام أو حتى الخبز، وبعضهم يغمى عليه في الشارع من شدة الجوع، وأنا أرى ذلك كل يوم”.
وعن المساعدات لفتت إلى أن جزءاً كبيراً من المساعدات الإنسانية، خصوصاً الأميركية من خلال “مؤسسة غزة الإنسانية”، يُعاد بيعه في السوق السوداء بأسعار فلكية، موضحة :” وصل سعر كيلو الطحين اليوم إلى 100 شيكل (30 دولار) وقبل يومين وصل إلى 200 شيكل (نحو 60 دولاراً)، بعد أن كان لا يتجاوز سعر الكيلو 6 دولارات قبل الحرب.
وتابعت: “أنا وعائلتي لا نفضل الاقتراب من نقاط توزيع المساعدات خوفاً من الاستهداف أو الاعتداء، حيث تنتشر (عصابات) تستولي على الحصص وتعيد بيعها”، وأفادت أن بعض ممن يحالفهم الحظ ويحصلون على المساعدات يتعرضون للنهب بعد استلام المعونات.
وعن الأمن نوهت إلى أن قوات الأمن الفلسطينية أصبحت هدفاً دائماً للاحتلال الإسرائيلي، حال محاولتها حماية المدنيين أوالمساعدات، ما يُسهّل على التجار السيطرة عليها، مشيرة إلى وجود نقص حاد في الغذاء.
وأردفت: “لا يتوفّر سوى القليل من الزيت والمعكرونة والعدس والأرز، بالكاد تكفي لوجبة واحدة يومياً، وغالباً دون خبز”.
أنين الجوع يطغى على صرخات الجرحى
يصف عامر رياض ما يحدث عند وصول شاحنات المساعدات قائلاً: “نتوجه نحوها ونحن نعلم جيداً أننا قد نعود محمولين، بدلاً من أن نحصل على كيس الطحين، لأن الخيارات للحصول على المساعدات أصبحت شبه معدومة”.
وأضاف في حديثه لـ”الشرق”: “تتوقف الشاحنات عند أقرب نقطة إلى المخيمات، لكن هناك إطلاق نار مباشر على الناس يسقط شهداء بجانب الشاحنات.. ورغم هذا الخطر، يعلو صوت جوع الأطفال فوق صرخات المصابين”.
ويتفق معه محمد زياد (39 عاماً) من حي الشجاعية شمال شرق غزة، مشيراً إلى أن وزنه انخفض من 110 إلى 60 كيلوجراماً بسبب نقص الغذاء، موضحاً أن العنف يزداد بين الناس بسبب ندرة الغذاء، وأن رجال الأمن المكلفين بحماية الشاحنات والمساعدات يتعرضون لهجمات إسرائيلية خاصة في قلب مدينة غزة.
ويروي زياد لـ”الشرق” معاناته من نقص الغذاء قائلاً: “لم أتناول رغيف خبز منذ أكثر من شهر، وأكتفي بنصف كيلو عدس كل 3 أيام”. ويشير إلى أن قوافل المساعدات التي تصل إلى شمال غزة عبر طريق “زيكيم” وممر “نتساريم” غالباً ما تُسرق قبل أن تصل إلى مستودعات برنامج الغذاء العالمي، بسبب الفوضى وتواطؤ بعض العملاء لصالح الاحتلال الإسرائيلي، ما يزيد من معاناة السكان في ظل الحصار الشديد.
الهيئات الطبية تستغيث
وقال مدير مجمع الشفاء الطبي، د. محمد أبو سلمية، إن المجاعة تضرب جميع سكان غزة تقريباً، مشيراً إلى أن المستشفيات ممتلئة بمرضى سوء التغذية.
وأضاف في تصريحات خاصة لـ”الشرق”، أن مجمع الشفاء يعمل حالياً بقدرة تفوق 250% من سعته، في وقت يعيش فيه كثيرون على الماء والملح، ما يشكل خطراً على حياة كبار السن والمرضى، مؤكداً وفاة 19 شخصاً خلال الـ24 ساعة الماضية، وسط نقص حاد في المحاليل الطبية.
فيما قال المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، خليل الدقران لـ”الشرق”، الاثنين، إن القصف الإسرائيلي أخرج معظم مستشفيات القطاع عن الخدمة، مشيراً إلى أن مئات الآلاف من الأطفال يواجهون مستويات جوع كارثية.
وأضاف أن هجمات الجيش الإسرائيلي أودت بحياة أكثر من 1650 شخصاً من الكادر الطبي، كما اعتقل أكثر من 360 شخصاً أخرهم مدير المستشفيات الميدانية في غزة، د. مروان الهمص الذي اختطف من قبل قوة إسرائيلية خلال لقاء صحافي في رفح، موضحاً أن الآلاف مهددون بالموت إذا استمرت إسرائيل بمنع إدخال المساعدات.
ويقول مؤمن رزق (42 عاماً) وهو ممرض في مستشفى الرنتيسي شمال غزة ويعمل حالياً في المستشفيات الميدانية، إن المنظومة الصحية في القطاع “مدمرة بالكامل”، محذراً من أن الإمكانيات الطبية “تقترب من الصفر”.
وأوضح رزق لـ”الشرق”، أن أكثر من 90٪ من المستشفيات خرجت عن الخدمة، فيما تعمل القليلة المتبقية بإمكانات شبه معدومة، قائلاً: “لم يعد هناك فرق بين الطبيب والمريض، ففي غزة الآن المٌجوع يعالج المُجوع”.
وأشار إلى أن أقصى ما يمكن تقديمه للمرضى حالياً هو محلول ملحي عبر الوريد لتخفيف الدوخة والإرهاق والهذيان، لافتاً إلى أن القطاع يعتمد حالياً على مستشفيات ميدانية وعدد 3 أو 4 مستشفيات حكومية أُعيد ترميمها جزئياً، وسط شح حاد في الأدوية، ما حول الرعاية الطبية إلى إسعافات أولية فقط.
وعلى كرسي متحرك يُصارع كمال محمد بريكة، (41 عاماً) من ذوي الاحتياجات الخاصة، الجوع والُقروح، حيث نزح من رفح إلى مواصي خان يونس جنوب غزة، ويعيش أوضاعاً طبية سيئة منذ منع وصول المساعدات، على حد وصفه، رغم أن المأساة تلاحقه منذ مايو 2024، منذ إغلاق إسرائيل للمعابر بعد احتلالها معبر رفح، وذلك في ظل غياب تام للمساعدات الطبية والغذائية.
ومضى بريكة يقول لـ”الشرق”، إن الجمعيات الخيرية كانت توفر له الدواء قبل الحرب، لكنها اليوم معطلة بسبب الحصار واستهداف المؤسسات، موضحاً أنه لا يستطيع أن يذهب للمستشفيات الميدانية ولا حتى الصيدليات.
وأشار بريكة (وهو مُقعد على كرسي متحرك جراء إصابة تعرض لها خلال الانتفاضة الثانية)، إلى أنه لم يتلق في هذه الأيام حتى شاشاً طبياً منذ نزوحه، ويعاني من قُروح جسدية بسبب نقص العلاج والغذاء.
معركة يومية للحصول على قطرة مياه
ويعاني سكان غزة من انعدام مصدر ثابت لمياه الشرب، بعد تدمير إسرائيل لشبكات المياه بالكامل، وأكد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن “الاحتلال استهدف 112 مصدراً لتعبئة المياه، ودمر 720 بئراً، ومنع دخول 12 مليون لتر وقود شهرياً لتشغيل محطات المياه، كما قطع خط مياه ميكروت” وخط الكهرباء الأخير المغذي لمحطة التحلية جنوب دير البلح منذ أبريل الماضي، ما أدى إلى تدهور حاد في إمدادات المياه في القطاع.
ويقول عامر رياض: “ننتظر يومياً أكثر من 5 ساعات في طوابير بمراكز الإيواء، بانتظار صهاريج مياه غير مخصصة لنقل المياه المحلاة، لتعبئة جالونات لا تتجاوز 10 لترات”.
ويضيف أن كل شاحنة تحمل نحو 20 ألف لتر لا تكفي لتلبية حاجة الأعداد الكبيرة المنتظرة، ما يجعل الحصول على مياه الشرب معركة يومية بحد ذاتها.
من جانبه، قال الدكتور محمد أبو سلمية، إن هناك شحاً كبيراً في مياه الشرب، مؤكداً أن بلدية غزة في شمال القطاع فقدت أكثر من 90% من مصادر المياه النظيفة.
وأوضح لـ”الشرق”، أن مياه الشرب اختلطت بمياه الصرف الصحي نتيجة انعدام الوقود اللازم لتشغيل محطات التحلية، ما أدى إلى انتشار واسع للأمراض، من بينها الحمى الشوكية، والنزلات المعوية، والأمراض الجلدية، بشكل كبير بين سكان قطاع غزة.
“فخ موت سادي”
وقال مدير هيئة الإغاثة الطبية الفلسطينية في غزة، عائد ياجي، إن ما يُشاع حول دخول المساعدات غير صحيح، مشيراً إلى أن إسرائيل ترفض إدخالها كجزء من خطة ممنهجة لاستكمال حرب الإبادة.
وأضاف ياجي في تصريحات لـ”الشرق”، إن الإنزال الجوي المتوقع سيقتصر على 13% فقط من مساحة القطاع، في منطقة ساحلية ضيقة من مواصي خان يونس حتى شاطئ مدينة غزة، حيث يتكدس النازحون، وحذر من خطر إصابات جراء هبوط المساعدات فوق الخيام المكتظة، مقارنة بالإنزالات السابقة التي كانت تشمل مناطق أوسع شرق القطاع.
وعن ضحايا المجاعة، كشف عائد ياجي أن “الهيئة رصدت من مستشفيات القطاع الحكومية والميدانية استشهاد نحو 2021 شخصاً وإصابة 6511 آخرين منذ نهاية مايو الماضي وحتى عصر الاثنين، جراء نقص الغذاء”، موضحاً أن غزة كانت تستقبل 600 شاحنة مساعدات يومياً قبل أكتوبر 2023، لكنها تحتاج الآن أكثر من 1100 شاحنة يومياً لإنقاذ القطاع من المجاعة.
من جانبها أكدت وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أن المجاعة لا تستثني أحداً في غزة، حيث يعاني مقدمو الرعاية من الجوع أيضاً بسبب الحصار.
وأضافت أن البحث عن الطعام أصبح خطيراً كالقصف، مع سقوط أكثر من 1000 شخص جوعاً من المسجلين لديها منذ نهاية مايو الماضي.
ووصفت مخططات توزيع المساعدات بأنها “فخ موت سادي”، بسبب إطلاق النار العشوائي من القناصة على الحشود وكان لديهم رخصة للقتل دون عقاب.
قلق أممي وتحذيرات من “كارثة وشيكة”
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش أعرب، الاثنين، عن قلقه الشديد من التدهور السريع للأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، محذراً من “انهيار آخر شريان يبقي الناس على قيد الحياة”.
وذكر المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، أن جوتيريش أعرب عن أسفه لتزايد حالات سوء التغذية بين الأطفال والكبار، مطالباً إسرائيل بتسهيل وصول المساعدات الإنسانية.
من جهته، وصف مفوض وكالة غوث للاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، فيليب لازاريني، على منصة “إكس”، إطلاق النار الإسرائيلي العشوائي على منتظري المساعدات بـ”رخصة للقتل”، محذراً من أن البحث عن الطعام أصبح “مصيدة للموت”.
وفي السياق ذاته، حذرت اليونيسف من مستويات كارثية لسوء التغذية بين الأطفال، مؤكدة أن الأزمة “كارثة من صنع الإنسان”.
وقتلت إسرائيل في حربها المستمرة على غزة منذ 7 أكتوبر 2023، نحو 60 ألف فلسطيني وفقاً لمسؤولي الصحة، وشردت الحرب جميع سكان القطاع تقريباً وأغرقته في أزمة إنسانية، وطال الدمار معظم أنحائه.
وتخوض إسرائيل و”حماس” محادثات غير مباشرة في قطر بهدف التوصل إلى وقف لإطلاق النار لمدة 60 يوما، لكن لا مؤشر على انفراجة وشيكة.