كشف فريق من الباحثين بقيادة مركز “فاندربيلت” الطبي (Vanderbilt University Medical Center) بالولايات المتحدة عن البنية الوراثية الكامنة وراء اضطراب التلعثم، أو ما يُعرف طبياً بـ”اضطراب الطلاقة في الكلام”.
ونُشرت نتائج الدراسة في دورية “نيتشر جيناتكس” (Nature Genetics) وتعدّ الأكبر من نوعها حتى الآن، مستندة إلى بيانات جينية لأكثر من مليون شخص.
رغم أن التلعثم يُعدّ من أكثر اضطرابات الطلاقة شيوعاً، ويؤثر على أكثر من 400 مليون شخص حول العالم، إلا أن أسبابه ظلت لعقود طويلة محل غموض وتخمينات غير دقيقة.
يتسم التلعثم بتكرار المقاطع أو الكلمات، أو بإطالة الأصوات أو التوقف المفاجئ أثناء الحديث، مما يؤدي إلى معاناة نفسية واجتماعية كبيرة للمصابين، خاصة في الطفولة والمراهقة.
وقالت المؤلفة الرئيسية للدراسة، جنيفر بايبر بيلو، مديرة معهد فاندربيلت للجينات: “لسنوات طويلة، لم نكن نعلم فعلياً لماذا يتلعثم بعض الأشخاص. النظرية السائدة كانت إما أن السبب نفسي أو متعلق بطريقة التربية أو حتى اليد المهيمنة. ولكن ما أثبتناه الآن هو أن الجينات تلعب دوراً رئيسياً”.
اعتمدت الدراسة على تحليل بيانات مقدمة من شركة 23andMe الشهيرة، شملت أكثر من 99 ألف شخص أقرّوا بإصابتهم بالتلعثم، وأكثر من مليون شخص آخرين لم تظهر لديهم هذه الحالة. ويُعد هذا التحليل أضخم دراسة جينية مرتبطة بالتلعثم حتى الآن.
وتمكن الباحثون من تحديد 57 موقعاً جينياً مميزاً ترتبط بالتلعثم، تنتمي إلى 48 جيناً مختلفاً، والأهم من ذلك، أن التحليل أظهر تداخلاً وراثياً للتلعثم مع سمات أخرى مثل التوحد والاكتئاب والقدرة الموسيقية، وهو ما يشير إلى وجود “مسارات عصبية مشتركة” قد تُشكل قاعدة بيولوجية موحدة لهذه الصفات المعقدة.
وتُظهر الإحصاءات أن التلعثم يصيب الأطفال من الجنسين بنسب متقاربة بين سن 2 إلى 5 سنوات، وهي المرحلة التي يبدأ فيها التلعثم عادة. إلا أن 80% من الأطفال يتعافون تلقائيًاً أو من خلال علاج النطق (يهدف إلى تحسين القدرة على التواصل اللغوي وغير اللغوي، بما في ذلك الكلام واللغة، بالإضافة إلى مهارات الأكل والبلع)، وتكون نسبة الشفاء أعلى لدى الإناث. ونتيجة لذلك، فإن نسبة المصابين البالغين بالتلعثم تكون أعلى لدى الذكور بواقع 4 إلى 1.
التلعثم.. ما هو؟ وكيف يمكن معالجته؟
التلعثم هو اضطراب في الطلاقة يؤثر على تدفق الكلام، حيث يَعرف المصابون ما يريدون قوله لكنهم يواجهون صعوبة في النطق، ويظهر على شكل تكرار أو إطالة للأصوات أو توقف مفاجئ أثناء الكلام.
أنواع التلعثم وأسبابه:
- التلعثم النمائي، شائع لدى الأطفال من عمر سنتين إلى 5 سنوات ويختفي غالباً مع النمو.
- التلعثم العصبي المنشأ، قد ينتج عن إصابات في الدماغ مثل السكتات.
- التلعثم النفسي المنشأ، يظهر بعد صدمات نفسية نادرة.
- للعوامل الوراثية دور مهم، وغالباً ما يظهر في العائلات.
أعراض التلعثم الرئيسية:
تشمل تكرار الأصوات، والتوقف قبل أو أثناء نطق الكلمات، واستخدام أصوات الحشو (مثل “امم”)، وتوتر عضلي في الوجه أو الجسم، وتغيرات في تعابير الوجه أو حركات لا إرادية مثل رمش العين أو إيماء الرأس.
متى يكون التلعثم مشكلة؟
إذا استمر لأكثر من 6 أشهر، أو صاحَبَه مشكلات لغوية أو جسدية، أو أثَّر في أداء الطفل الاجتماعي أو المدرسي، أو بدأ فجأة بعد البلوغ، لذا يُفضَّل استشارة اختصاصي في النطق واللغة.
العوامل المؤثرة في التلعثم:
- الجنس: الذكور أكثر عُرضة من الإناث.
- وجود تاريخ عائلي للتلعثم.
- اضطرابات نمائية مثل التوحد أو فرط النشاط.
- التوتر أو الضغط العاطفي قد يزيد الحالة سوءاً.
المضاعفات النفسية والاجتماعية:
التلعثم يمكن أن يؤدي إلى فقدان الثقة بالنفس، أو تجنب الكلام والأنشطة الاجتماعية، أو التنمر، أو تراجع الأداء المدرسي أو المهني.
التشخيص:
يتم عبر اختصاصي أمراض النطق واللغة من خلال تقييم الكلام في مواقف مختلفة، والتعرف على تاريخ الحالة، وأثرها على حياة الطفل أو البالغ.
العلاج:
- معالجة النطق: تعليم التحدث ببطء وبتركيز لتحسين الطلاقة.
- أجهزة إلكترونية: تساعد على تحسين الإيقاع الصوتي أثناء الكلام.
- العلاج السلوكي المعرفي: يُستخدم لمعالجة القلق والتوتر المرتبط بالتلعثم.
- التفاعل الأبوي: دعم الأهل عنصر أساسي في علاج الأطفال.
لا توجد أدوية فاعلة حتى الآن:
رغم إجراء تجارب على بعض الأدوية، لم تثبت أي منها فاعلية مؤكدة في علاج التلعثم.
التلعثم لا يعني قلة الذكاء أو الضعف الشخصي:
المفاهيم الخاطئة حول أسبابه شائعة، لكن العلم الحديث أوضح أن التلعثم حالة عصبية معقدة تتأثر بعوامل وراثية وعصبية وليست نتيجة للفشل الشخصي أو التربوي.
ولهذا السبب، أجرى الفريق البحثي دراسات جينية منفصلة بناءً على الجنس والأصل العرقي، ثم دمج النتائج من خلال تحليل شامل. ولاحظ الفريق اختلاف التوقيعات الوراثية بين الذكور والإناث، ما قد يُفسر لماذا يستمر التلعثم لدى بعض الأشخاص بينما يختفي لدى آخرين.
ومن أبرز ما توصلت إليه الدراسة أن الجين الأكثر ارتباطاً بالتلعثم لدى الذكور هو VRK2، وهو الجين نفسه المرتبط في دراسات أخرى بقدرة الشخص على التفاعل مع الإيقاع الموسيقي، مثل التصفيق على النغمة، وكذلك بانحدار اللغة لدى مرضى ألزهايمر.
وينتج ذلك الجين إنزيم يُعرف باسم “كيناز VRK2″، وهو نوع من الإنزيمات التي تُنظم عمليات حيوية داخل الخلية مثل انقسام الخلايا، ونمو الدماغ، والتفاعل مع الإشارات الكيميائية.
ويقع هذا الجين على الكروموسوم السادس، وقد أظهرت دراسات علمية حديثة أنه يلعب دوراً محتملاً في اضطرابات عصبية ونفسية مثل الفُصام والصرع والاكتئاب، حيث لوحظ أن بعض الطفرات أو الاختلافات الوراثية فيه ترتبط بخلل في التواصل العصبي وتنظيم الاستجابات الالتهابية في الدماغ.
ورغم أن الوظيفة الدقيقة للجين ما زالت قيد البحث، فإن فهم آلية عمله قد يسهم في تطوير علاجات موجهة لأمراض دماغية معقدة يصعب التعامل معها بالطرق التقليدية.
ومضت المؤلفة الرئيسية للدراسة، جنيفر بايبر بيلو تقول: “لطالما اعتقدنا أن اللغة والموسيقى والتحدث مجالات منفصلة في الدماغ، لكن دراستنا تشير إلى أن هناك بنية جينية مشتركة تتحكم في هذه الوظائف المعرفية العالية”.
وإلى جانب أهمية النتائج علمياً، فإنها قد تُحدث فرقاً على المستوى المجتمعي. فالتلعثم لا يُدخل الناس المستشفيات، لكنه يؤثر بشدة على جودة الحياة، ويزيد من احتمالات التنمر، ويقلل فرص المشاركة في التعليم والعمل، ويؤثر على التقدير الذاتي والصحة النفسية، بحسب الدراسة.
وختمت بيلو قائلة: “هدفنا هو أن تُستخدم هذه النتائج في تطوير مؤشرات مبكرة للكشف عن الأطفال المعرضين للتلعثم، وبالتالي توفير الدعم المناسب لهم في وقت مبكر. نأمل أيضاً أن تُساهم في تصحيح الأفكار الخاطئة والمجحفة التي لطالما أُلصقت بالمصابين”.