اخبار تركيا
تناول مقال للكاتب والإعلامي العراقي د. أيمن خالد، الموقف التركي الثابت من قضية وحدة الأراضي في العراق وسوريا، مستعرضًا جذوره القانونية في معاهدة لوزان عام 1923، وأبعاده الاستراتيجية الة بالأمن القومي التركي واستقرار المنطقة.
ويبرز الكاتب في مقاله بموقع الجزيرة مباشر كيف التزمت تركيا عبر العقود بعدم دعم أي مشاريع انفصالية أو تغييرات أحادية في حدود الدولتين، رغم التحولات الإقليمية والدولية وتعاقب الحكومات في أنقرة.
كما يشير إلى مواقف حاسمة، مثل رفض استفتاء انفصال إقليم كردستان عام 2017، مؤكدًا أن تركيا ترى في وحدة الجوار العربي شرطًا لاستقرارها واستمرار الشرق الأوسط ككيان جغرافي وسياسي قابل للحياة.
وفيما يلي نص المقال:
في عالم يتبدل كل لحظة، من النادر أن نجد موقفًا استراتيجيًّا ثابتًا يمتد قرنًا كاملًا دون أن تهتز أركانه تحت ضغط المصالح أو تقلبات الخرائط. ومن تلك المواقف التي تُحسب للدبلوماسية التركية، موقفها الصارم والواضح من قضية وحدة أراضي العراق وسوريا، وهو موقف لم ينبثق من لحظة عابرة، بل تأسس على قاعدة قانونية ورؤية استراتيجية منذ معاهدة لوزان عام 1923، وتجدد بأشكال متوالية حتى يومنا هذا، دون أن ينحرف عن مساره رغم تحولات النظام الدولي، وتعقيدات الصراع الإقليمي، وتبدل الحكومات داخل أنقرة نفسها.
عندما جلست تركيا الجمهورية إلى طاولة التفاوض في مدينة لوزان السويسرية بعد أن أنجزت توازنًا عسكريًّا وسياسيًّا يُحسب لها في مواجهة جيوش الاحتلال الغربي، ومهدت بذلك لمعاهدة لوزان التي صاغت خريطة ما بعد الحرب بمعادلة غير خاضعة بالكامل لإرادة المنتصرين، كانت أمامها قضية محورية تتجاوز إعادة رسم حدودها الداخلية، وهي منع تفتيت دول الجوار العربي وتثبيت وحدة العراق وسوريا. لم يكن ذلك مجرد دبلوماسية حسن الجوار، بل كان جزءًا عضويًّا من أمنها القومي، ومن فهمها العميق لطبيعة الإقليم وتركيبته المتداخلة.
وقد نصّت المادة الثالثة من معاهدة لوزان بوضوح على الإقرار بحدود سوريا المتفق عليها مع فرنسا، وعلى عدم إجراء أي تعديل على الحدود العراقية إلا بموجب تسوية سلمية رسمية أو قرار من عصبة الأمم المتحدة.
وقد تضمنت هذه المادة أيضًا قاعدة قانونية صريحة تُلزم جميع الأطراف بعدم تعديل حدود العراق إلا باتفاق دولي رسمي أو قرار أممي، مما يعني أن أي مشروع للتقسيم أو الانفصال يُعد فاقدًا للشرعية القانونية الدولية، ويشكّل خرقًا مباشرًا للاتفاقية. وهو ما يُعطي تركيا الحق الكامل بصفتها دولة موقّعة في الاعتراض القانوني والدبلوماسي على أي عبث بالخريطة الجغرافية للعراق خارج إطار الاتفاق الدولي.
ومنذ ذلك اليوم، لم تقم تركيا بأي حرب ضد العراق أو سوريا، ولم تتورط بسياسات توسعية أو تدخلات ترمي إلى تغيير هوية الجغرافيا العربية، بل امتنعت عن دعم أي مشاريع انفصال أو تفتيت للدولتين المركزيتين.
ليس هذا الموقف وليد هواجس أو دوافع ضيقة، بل يعكس رؤية استراتيجية تركية تقوم على حُسن النية اتجاه جيرانها، وإيمانًا عميقًا بأن استقرار العراق وسوريا هو جزء لا يتجزأ من استقرار تركيا نفسها. فالتفكيك لا يُهدد حدودًا فقط، بل يهدد منظومة التوازن الإقليمي بالانهيار، ويفتح الأبواب أمام فوضى لا تعرف خطوطًا حمراء ولا تقف عند جغرافيا معينة.
ما يميز الموقف التركي أنه لا يُترجم بالخطاب السياسي فقط، بل يتجلى في لحظات الحسم. ففي سبتمبر/أيلول 2017، عندما قررت حكومة إقليم كردستان العراق بقيادة السيد مسعود البارزاني إجراء استفتاء للانفصال تمهيدًا لإعلان دولة كردية، كان يمكن لتركيا أن تتعامل ببراغماتية وأن توظّف الحدث لصالحها، خصوصًا أن أنبوب النفط الكردي كان يمر عبر أراضيها، وأنقرة كانت حينها الشريك الاقتصادي الأول للإقليم. لكنها فضّلت موقفًا مبدئيًّا فاجأ الجميع، حيث أغلقت المنافذ الحدودية، وعلّقت الاتفاقيات التجارية، ولوّحت بتدابير حاسمة ضد أي تغيير أحادي في خريطة العراق.
لم يكن ذلك تعنتًا ضد مكوّن كردي بحد ذاته، بل تجسيدًا لقاعدة ثابتة: وحدة الدولة المركزية في العراق وسوريا ليست فقط ضرورة عربية، بل ضرورة تركية أيضًا. ولعل أبرز تجليات هذا الموقف المعاصرة ما عبّر عنه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان يوم الثلاثاء 22 يوليو/تموز 2025، حين قال بصراحة: “هناك حركة واضحة تريد تقسيم سوريا، ونحن لن نسمح بذلك”. هذا التصريح لا يُقرأ على أنه مجرد انحياز إلى طرف من أطراف الأزمة السورية، بل هو موقف كلي ضد فكرة التقسيم ذاتها، بكل ما تحمله من تهديد للمنطقة ودفعها نحو نموذج هشّ يشبه ما حدث في البلقان أو القوقاز أو إفريقيا بعد الاستعمار. إنها ليست معركة حدود، بل معركة بقاء.
ويجدر تأكيد أن هذا الموقف المتماسك لا يرتبط بحكومة أو حزب بعينه، بل هو خيار استراتيجي متجذر في الدولة التركية، أيًّا كان القائم على الحكم فيها. فقد عبّر عنه الرئيس رجب طيب أردوغان مرارًا، بقوله إن العراق وسوريا دولتان محوريتان بالنسبة لتركيا، لا يفصلها عنهما التاريخ ولا الجغرافيا، بل هما جزء من محيطها الحيوي والاستراتيجي، ومصير استقرارهما من صميم أمنها القومي وموقعها الجيوسياسي.
ما يميز هذا الموقف التركي أنه يجمع بين الواقعية والعقلانية والبعد الأخلاقي، في توازن نادر في العلاقات الدولية. فتركيا، على عكس كثير من الفاعلين الإقليميين، لم تستثمر في فوضى الدول المجاورة، ولم تدعم ميليشيات عابرة للحدود، ولم تضع يدها على موارد الغير بالقوة. بل سعت إلى بناء علاقات قائمة على سيادة متبادلة، ووحدة الدول، والتفاهم على إدارة ملفات الخلاف لا تفجيرها. وبهذا المعنى، فإن تركيا تُقدّم نموذج الدولة الإقليمية التي تحمي حدودها لا بتوسيع النفوذ، بل بتعزيز الاستقرار حولها.
ومن المؤسف أن بعض الخطابات في المنطقة لا تزال تقرأ الموقف التركي بعين الريبة، رغم أن أنقرة لم تكن يومًا طرفًا في حرب مع العراق أو سوريا، بل كانت بوابتهما إلى العالم في أحلك الظروف، وسندًا في زمن الحصار والعزلة. وقد آن الأوان لفهم الموقف التركي بعيدًا عن أوهام الماضي، لأن وحدة العراق وسوريا اليوم لم تعد خيارًا سياسيًّا، بل أصبحت شرطًا لبقاء الشرق الأوسط نفسه إقليمًا قابلًا للحياة. فكل تجربة تفتيت سابقة لم تُنتج سوى الموت والتهجير والخراب، وكل كيان انفصالي بُني على أكتاف التدخلات الأجنبية لم يعمّر طويلًا، بل أصبح معبرًا لمزيد من التدويل والتدخل الخارجي.
تركيا، في ثباتها على موقف وحدة العراق وسوريا، تؤكد أن هناك في الإقليم من لا يزال يؤمن بأن الخرائط ليست أوراقًا، وأن الأمم لا تُبنى فوق أنقاض أمم أخرى. وهي تُذكّر الجميع بأن الشراكة بين الدول لا تقوم على هندسة الخرائط من الخارج، بل على احترام الداخل، والاعتراف بأن لكل دولة الحق في أن تبقى متماسكة مهما ضعفت، وأن تُداوي أزماتها الداخلية دون أن تتلقى الطعنات من خلف ظهرها.
لا أعتقد أن تركيا تُخيفها فكرة تنوع الشعوب لأنها دولة جاذبة عبر التاريخ، لكنها ترفض أن يكون هذا التنوع بوابة لتفتيت الدول. هي دولة قومية، نعم، لكنها لم تمنع أكرادها من التمثيل البرلماني، ولا من المشاركة في صناعة القرار، ولا من التعبير عن هويتهم. وإذا كانت قد خاضت صراعات مع حزب العمال الكردستاني، فإنها لم تحوّل ذلك إلى حرب مفتوحة مع شعب بأكمله. بل ظلت تسعى إلى نموذج يحتضن الجميع دون فتح الباب للانفصال.
وإذا ما قرأ العرب هذا الموقف كما هو، لا كما يُراد لهم أن يظنوا، فقد يجدون في تركيا حليفًا استراتيجيًّا نادرًا، لا عدوًّا متوهَّمًا. وإن كانت المنطقة قد استهلكت كثيرًا من فرصها، فإن الحفاظ على ما بقي منها يبدأ من هنا: من وحدة العراق، ووحدة سوريا، ومن ثبات السياسة في زمن التقلّبات.