اهتم الدين الإسلامي الحنيف اهتماماً بالغاً بالإنسان وصون كرامته، وشرع له من الحقوق المتقنة، والواجبات البينة، ما لا يمكن تحقُقُه بكماله في شرعةٍ غير الإسلام.
وإن من القضايا التي باتت الدول والمجتمعات بتجريمها، والسعي لمحاربتها، قضية الاتجار بالأشخاص.
ويعرف الاتجار بالأشخاص بأنه: “تجنيد شخص أو نقله أو إيوائه أو استقباله بغرض إساءة الاستغلال، وذلك عن طريق الإكراه أو التهديد أو الحيلة أو باستغلال الوظيفة أو النفوذ أو بإساءة استعمال سلطة ما على ذلك الشخص أو بأي وسيلة أخرى سواء أكان مباشرة أو غير مباشرة”.
وتتعدد صور الاتجار بالأشخاص منطلقة من انتهاز الضعف المتأصل لدى الضحية، والاتجار به، وتشمل: الابتزاز المالي، والابتزاز الغريزي المحرم، أو التسول القسري، والاتجار بالأعضاء البشرية، كذا الاتجار لأغراض العمل القسري، يضاف إلى ذلك قضايا التهجير، وقضايا المخدرات وترويجها.
ويعتبر الاتجار بالأشخاص ثالث أكبر تجارة إجرامية غير مشروعة في العالم بعد تجارة المخدرات والسلاح.
وإنَّ الشريعة الإسلامية، وإن لم تنص صراحةً على عبارة “الاتجار بالأشخاص” أو : “الاتجار بالبشر” بهذا اللفظ، إلا أنها نصت صراحةً في العديد من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية على حظر أفعالٍ كثيرة تتكون منها هذه الجريمة.
حيث جاء الإسلام بتحريم وتجريم أشكال وظواهر الاتجار بالأشخاص بصوره المختلفة، ومن يطلع على المقاصد الشرعية يجدها تعارض الاتجار بالأشخاص، وإن لم تسمه باسمه.
ولبيان موقف الشريعة الإسلامية من الاتجار بالأشخاص؛ استعراض أبرز ما تناولته بهذا الخصوص من خلال المحاور التالية:
المحور الأول: تكريم الله تعالى لبني آدم.
خلق الله الإنسان حين خُلق مصوناً محترماً مكرماً، يقول الله تعالى: (( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ))، سورة الإسراء: 70.
فإن هذا التكريم جاء بنصٍ قرآنيٍ من الحكيم الخبير، لا من وضعٍ بشريٍ قد تعتريه العاطفة، والافتقار إلى الكمال، لذا فالإنسان هو مكرمٌ؛ لكونه إنساناً بغض النظر عن أي أمر آخر.
ولقد بين نبي الهدى صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع جملة من الحقوق العامة للناس بقوله: (( إنَّ دماءَكم، وأَموالَكم، وأَعراضَكم، عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)).
وفي هذا تأكيد صريح غليظ من النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم الدماء، وتحريم الأموال والأعراض، فكلها مُحرمةٌ تحريماً غليظاً.
وهذا ما يؤكد أن الشريعة الإسلامية بنصوصها كرمت الإنسان، وحفظت له كرامته، وأبعدته عن أي انتهاك قد يتعرض له.
المحور الثاني: مسألة الرق في الإسلام.
سلكت الشريعة الإسلامية مسلكا متزناً ومتدرجاً في معالجة مسألة الرق:
فحرَّمت الشريعة أن يُباع الإنسان الحُرُّ أو أن يُشترى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: وعد منهم: ورَجُلٌ بَاعَ حُرًّا، فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ))، لذا فإن الحر لا يدخل تحت اليد.
كما وسعت الشريعة منافذ تحرير الرقاب، ورتبت عليها الأجور العظيمة، بل جعل العتق أولى درجات كفارة بعض الكبائر، وفي مقدمتها قتل النفس بغير حق.
لذا نجد أن الشريعة الإسلامية عالجت قضية الرق معالجة دقيقة للتخلص من العبودية بفعل تعبدي إلهي.
المحور الثالث: النهي عن الاستغلال الغريزي المحرم.
نهت الشريعة الإسلامية عن الاستغلال الغريزي المحرم بغرض الكسب، وهذا ما كان عليه الأمر في الجاهلية، وعد ذلك من أنواع البغاء التي نهى عنها الإسلام، فقد قال الله تعالى: (( وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )). سورة النور: 33.
فجاء هذا النهي الإلهي عن هذا الفعل تأكيداً لحفظ كرامة الإنسان وصون حقوقه.
المحور الرابع: النهي عن استغلال المدين بالقوة حال تعثره.
حرمت الشريعة الإسلامية استغلال المدين بالقوة حال تعثره، والمدين هو: من أخذ مالاً وعجز عن الوفاء به في الموعد المحدد.
وكان من حال أهل الجاهلية أنه إذا حل الدين قال أحدهم لمدينه: أدي ما عليك، فإن لم يكن لديه ما يؤديه طالبه بالزيادة مقابل التأجيل، وفي ذلك استغلال بين لظروف الناس وحاجتهم. فنهى المولى عز وجل عن ذلك، وأمر بالترفق بحاله، قال الله تعالى: (( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ))، سورة الْبَقَرَةِ: 280.
وهذا يشير إلى ما توجه به الشريعة الإسلامية لعدم استغلال حاجات الناس واستعبادهم وتحميلهم ما لا يطيقون.
المحور الخامس: النهي عن أكل حقوق الأجراء والعمال، ووجوب حسن معاملتهم.
إن الناس يتفاوتون غنىً وفقراً، وبين من يملكون المال وينمونه، وبين من يسعون لتحصيله لسد عوزهم.
ومن رحمة الشريعة الإسلامية بالناس أن أقرت جملة من الحقوق والواجبات تحفظ لكل الأطراف حقوقهم، ونهت عن كل ما يكون فيه إذلال للناس واستغلال حاجاتهم، سواء كان ذلك بـ”العمل القسري”، أو “العمل الجبري”، والذي تنتزع من خلاله إرادة البشر وتزال، مع التقييد بالعقود الجائرة أو بالاشتراطات المجحفة.
ولما كان الأجير في الغالب هو الذي يقبل الشروط، بل وتملى عليه، فقد وضعت الشريعة الإسلامية ضوابط لذلك، من بينها: تحريم أكل حقوق الأجراء والمماطلة في دفع أجورهم بعد استيفاء العمل منهم.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: وعد منهم: ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، ولَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ )).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ )).
لذا فإن الشريعة الإسلامية نظمت العلاقة بين رب العمل والعامل، وجعلت أساسها الرضا، كما أنها قائمة على العقد الذي يضمن حقوق الطرفين، ويعطي كل ذي حق حقه، وتضمن الحقوق والواجبات.
كما نهت الشريعة عن الاعتداء على الأجراء والعمال بأي صورة من صور الاعتداء، فعن أبي مسعود البدري رضي الله تعالى عنه قال: كنتُ أضرِب غلاماً لي بالسوط، فسمعتُ صوتاً من خَلْفِي، فلَمَّا دنَا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: “اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ”، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، هو حرٌّ لوجه الله تعالى، فقال: أمَا لو لم تفعل لَلَفَحَتْكَ النارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النارُ”.
ويكفي في الترهيب من تحميل الأجير فوق ما يطيق، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( هُمْ إخْوانُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ )).
لذا فإن الوازع الديني والإيمان المترسخ في القلوب هو أكبر دافع لمنع ظلم الأجراء واستغلال حاجاتهم.
وبعد استعراض هذه المحاور، نجد أن الشريعة الإسلامية قد حرمت الاتجار بالأشخاص، وجرمته بكل صوره وأنواعه، لما فيه من انتهاك واضح للحقوق واعتداء على الحريات.
وأن ما تم بيانه هو جزء يسير من تعاليم الإسلام ونهجه في حفظ كرامة الإنسان وصون حقوقه.
وهي بهذه النصوص الجلية الواضحة وغيرها الكثير مما له صلة بهذا الجانب، تُعد سابقة في إقرار حقوق البشر، وداعية إلى صون كرامة الإنسان قبل أكثر من 15 قرناً من الزمان.
د. راشد عبدالرحمن العسيري أستاذ الفقه بجامعة البحرين