وفاةُ أسامة الجاعور في سجن رومية ليست حادثةً عابرة، بل صفعةٌ على وجه دولةٍ تقول إنها تغيّرت، بينما تترك أبناءها يتعفّنون في زنازين بلدٍ مجاور. لا معنى لأي خطابٍ عن “صفحةٍ جديدة” ما دام ملفُّ المعتقلين السوريين في لبنان ليس في صدارة الأولويات، فعلاً لا قولاً. العدالة ليست بيانَ تعزيةٍ ولا تغريدةَ تضامن؛ العدالة قرارٌ يُنقذ حيًّا قبل أن يشيّع شهيدًا.

 

وجعُ الثورة… عائلاتٌ بنصفِ حياة

نحن لا نتحدث عن أرقام. نتحدث عن أمٍّ تحمل كيس الدواء وتقف أمام بوّابةٍ لا تُفتح، وعن أبٍ يحفظ مواعيد الزيارات إن سنح له ذلك أدقّ من مواقيت الصلاة، وعن زوجةٍ تتعلّم لغة المحاكم مضطرةً كي تفهم لماذا طال التوقيف، وكيف تُصبح الشبهة حكمًا، والحكمُ عمرٌ ضائعٌ. هناك عائلاتٌ ودّعت أبناءها في سوريا، وأخرى تراهم أحياءً لكن خلف القضبان في لبنان، لأنهم انتموا لثورةٍ دفعت من دمها كي نقول اليوم: الإنسان أولًا.

أين تقع المسؤولية؟

على لبنان: نعم، لأن الاكتظاظ المزمن والإهمال الطبّي والتوقيفات المتمادية بلا أحكام تُحوِّل السجن إلى عقوبةٍ قبل المحاكمة. تحقيقٌ شفافٌ ومستقلّ في وفاة أسامة وكل حالة وفاة أو تعذيب ليس ترفًا حقوقيًا، بل واجب دولة.

 

وعلى حكومتنا أولًا: لأن واجب الدولة يبدأ من أبنائها. لا يكفي القول “نعالج الملف بالقنوات الرسمية”. أين القوائم الاسمية الموثّقة؟ أين الدفاع القانوني المموَّل؟ أين الزيارات القنصلية المنتظمة؟ أين لجنة الأزمة الدائمة التي تُصدِر تقريرًا أسبوعيًا يُحاسَب عليه وزير قبل الموظف؟ دولةٌ لا تُمسك بملف أسراها ليست دولةً مكتملة؛ هي نصفُ دولةٍ ونصفُ وعد.

 

أسامة… الاسم الذي يفضح العجز

أسامة الجاعور، ابن القصير، قضى بعد سنواتٍ من الاعتقال و”ظروفٍ قاسية”. هذه الجملة الصغيرة تختصر عارًا كبيرًا: مريضٌ لا يصل إليه الدواء في الوقت المناسب، سجينٌ ينتظر جلسةً لا تنعقد، وأسرةٌ تنتظر اتصالًا لا يأتي. هنا لا نتجادل حول السياسة؛ هنا نقيس إنسانيتنا. إن لم يكن الموتُ في الحبس كافيًا ليقلب الطاولة، فما الذي يمكن أن يحرّك هذه البيروقراطيات الثقيلة؟

 

ما الذي نريده من الحكومة… الآن لا غدًا

نريد خطةً تُقاس لا خطابًا يُصفّق له. خمس خطواتٍ بسيطة، واضحة، قابلة للمتابعة:

 

سجلٌّ علني محدَّث بشكلٍ دوري : أسماء المعتقلين السوريين في لبنان، حالتهم القانونية، موقع احتجازهم، المستجدّات الإجرائية لكل حالة.

 

فريقُ دفاعٍ وطبٍّ شرعي دائم: محامون معتمدون وأطباء شرعيون يتابعون كل ملف، مع خط ساخن للأهالي يعمل 7/24 ويقدّم إجابات لا أعذارًا.

 

اتفاقٌ قضائيٌّ ثنائي مُلزم: سقفٌ زمنيّ للتوقيف الاحتياطي، أولويةُ نظرٍ للقضايا المتراكمة، وتمكين الزيارات المفاجئة لهيئاتٍ حقوقية مستقلّة داخل السجون.

 

مسارٌ إنسانيّ عاجل: الإفراج الصحي للحالات المزمنة وكبار السنّ والقاصرين، ونقلٌ فوري لأي حالة تُشخَّص بالخطر إلى رعايةٍ تخصصية.

 

مؤقّتٌ أخلاقي: 90 يومًا: نريد خلال ثلاثة أشهر أرقامًا لا وعودًا: كم اسمًا خرج؟ كم ملفًا أُغلق؟ كم جلسة محاكمة عُقدت؟ هذه مهلةٌ للإنقاذ، لا موعدٌ لالتقاط الصور.

 

لغةٌ أقرب للناس… وأقسى على التقصير

يا أصحاب القرار: الناس لا تريد خططًا “طموحة”، تريد بابًا يُفتح. تريد أن تسمع ابنها لا أن تسمع صوتك. تريد جدولًا بموعد الجلسة القادمة لا جملةً عن “متابعة حثيثة”. عندما تقول أمٌّ: “ابني حيّ”، لا تجيبها بـ“نقدّر معاناتك”؛ أخرجْه إلى النور أو قدّم لها موعدًا مكتوبًا وخارطة طريقٍ واضحة. السياسة التي لا تضع كتابًا مفتوحًا أمام الأهالي—بالأسماء والتواريخ—هي سياسةٌ تختبئ من نفسها.

 

على اللبنانيين أيضًا… ولكن

نعم، على السلطات اللبنانية واجبٌ ثقيل: طبابةٌ كريمة، محاكمةٌ عادلة، ومحاسبةُ كل متورّطٍ في تعذيبٍ أو إهمالٍ أدى إلى موت. لكن لنكن صريحين: كرامة السوري في لبنان تبدأ من دولةٍ سوريةٍ تمسك بيده. حين يرى السجين محاميًا موكّلًا من حكومته، وسفيرًا يسأل عنه بالاسم، وتقاريرَ علنيةً تُحرج المقصّرين—عندها فقط تتغيّر المعادلة داخل الجدران الأربعة.

 

كلمةٌ تُشبه الثورة

الثورة التي علّمتنا أن الإنسان لا يُختزل في بطاقةٍ أو حزبٍ أو جبهة، ترفض اليوم أن يُختزل في رقمِ قضيّة. لسنا نطلب معجزات، نطلب دولةً تليق بتضحيات أبنائها: دولةً تقول للفاسد “قف”، وللمقصّر “تحاسب”، وللسجين “أنت لست وحيدًا”.

أسامة اسمٌ واحد. خلفه أسماءٌ تُدحرج الدموع في صدر الأمهات. أعيدوهم أحياءً وبكرامة—وعندها فقط يمكن أن نصدّق أن هذه حكومةٌ لنا لا حكومةٌ علينا.

 

 

الحكومة تُحاسَب اليوم بعدد الأبواب التي ستُفتح، لا بعدد الاجتماعات التي ستُعقد. والمهلة الأخلاقية واضحة: تقدّمٌ ملموس في هذا الملف —وإلّا فأنتم شركاء بالصمت، والصمتُ في قضايا الحياة والموت تواطؤ.

مقال رأي|| سجناء بلا دولة: المعتقلون السوريون في لبنان بين قسوة الزنازين وخذلان السياسة
مقال رأي|| سجناء بلا دولة: المعتقلون السوريون في لبنان بين قسوة الزنازين وخذلان السياسة

🔹 ملاحظة: هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر الوكالة

المصدر: وكالة ستيب الاخبارية

شاركها.