في كثير من التعاملات بين الأفراد، أصبح من المعتاد التوقف عند كل كلمة أو تصرف أو حتى نظرة، وكأنها تستحق التحقيق والمساءلة، بغضّ النظر عن حجم الموقف أو بساطته. ومع مرور الوقت، يتحول التدقيق المفرط إلى ركيزة في أسلوب التواصل، مما يخلق بيئة مليئة بالاستنفار والخوف من الوقوع في أي خطأ، حتى لو كان عفوياً أو غير مقصود. فالإنسان بطبيعته غير معصوم من الخطأ، وأحياناً قد يخطئ مجبراً أو دون وعي.
الكثيرون يظنون أن التدقيق في أخطاء الآخرين هو نوع من الانتصار أو إثبات الذات، لكنهم يغفلون عن أن هذا السلوك قد يفسد أي علاقة، مهما كانت طبيعتها. فالتدقيق المستمر يولّد شعوراً بالضيق والنفور، ويدفع الطرف الآخر إلى الانسحاب أو الانغلاق، خاصة إذا شعر بأن أخطاءه مهما كانت صغيرة تُحاسَب بلا رحمة. والأسوأ أن المدقق نفسه قد يكون لديه أخطاء أكبر، لكنه يتجاهلها بينما يسلّط الضوء على هفوات غيره، مما يجعله غير عادل في أحكامه.
تصوّر رب أسرة مثقلاً بضغوط الحياة، يقع أحياناً في أخطاء جسيمة وأحياناً في زلات بسيطة، لكنه يجد نفسه دوماً في مرمى اللوم والتدقيق. حتماً ستتأثر علاقته بأسرته، لأن النقد المستمر يخلق مسافة وجدانية لا يمكن إصلاحها بسهولة. والعكس صحيح، فرب الأسرة الذي يضع أفراد عائلته تحت مجهر الانتقاد في الصغيرة قبل الكبيرة، سيحوّل الحياة إلى سلسلة متواصلة من الخذلان والإحباط، ولن يصل إلى استقرار أسري حقيقي.
وفي بيئة العمل، إذا كنت مسؤولاً عن فريق، فاحرص على بناء أجواء يسودها الاحترام والثقة وروح التعاون. فالتدقيق المستمر يقتل الحماس ويحوّل الموظف إلى جسد بلا روح، مما يؤثر سلباً على الإنتاجية ويؤدي في النهاية إلى فقدان الكفاءات. الناجحون يدركون أن التغافل عن التفاصيل الصغيرة وترك مساحة من المرونة أهم بكثير من الانشغال في تصيد الأخطاء.
الخلاصة: الشيطان يسكن في التفاصيل، لكن الحكمة في اختيار أي تفاصيل تستحق التدقيق. ركّز على الأمور الجوهرية ذات التأثير الحقيقي، وتغافل عن الهفوات العابرة، حتى تحافظ على علاقاتك أياً كان نوعها بسلام وود. لا تدع حضورك مصدر توتر أو تذمّر، بل اجعل وجودك باعثاً على الطمأنينة والاحترام المتبادل. الحياة مدرسة كبرى، والتغافل فن من فنون الحفاظ على العلاقات واستمرارها بنجاح.