في زمنٍ صارت فيه مساحة الشاشة الصغيرة أكبر من مساحة قلوبنا، تحوّل الموبايل إلى «السارق الذكي» للتواصل، ولم يعد الجلوس مع الآخر يعني الإصغاء إليه، بل صار حضوراً جسدياً غائب الذهن، تتنازعه التنبيهات والرسائل والومضات الملونة على شاشة هذا السارق الصغير.
كانت الأذن يوماً بوابة إلى القلب، والكلمة جسراً نحو الفهم العميق. واليوم، صار الحديث يُلقى كما تُلقى الحجارة في بئرٍ لا صدى فيه. نرى المشهد نفسه يتكرر في البيت، وفي العمل، وخلال اللقاءات الاجتماعية: أشخاص يجلسون معاً، لكن كلاً منهم غارق في شاشة موبيله الذكي، يصغي للعالم البعيد، ويصم أذنه عن عالمه القريب.
لقد غيّر الموبايل إيقاع الحوار، فصار الحديث مبتوراً، والاستماع مشوشاً. في البيت، يتحدث الطفل فلا تسمعه والدته المنشغلة بالتمرير على شاشة موبيلها، وفي العمل، يحاول الموظف أن يعبر عن رأي ما لمديره فلا يلقى آذاناً صاغية، لأنه الأخير مشغول على شاشة موبيله. هذا الشرخ في الإصغاء لا يقتل التواصل فحسب، بل يضعف الروابط الإنسانية التي لا تزدهر إلا بالانتباه الكامل.
لقد أشارت دراسة حديثة من جامعة كاليفورنيا إلى أن الأشخاص الذين يتعرضون باستمرار للتنبيهات الرقمية يعانون من ضعف في التركيز والقدرة على الاستماع الفعّال. هذا التشتت المزمن لا يؤثر على الذاكرة فحسب، بل يُضعف جودة العلاقات الإنسانية. فأن لا يُصغي لك أحد، يشبه تماماً أن تكون غير مرئي، وهو أمر في غاية الخطورة وخاصة في تنشئة الجيل الجديد، حيث لقد أصبح الاستماع بالفعل من المهارات المنسية، رغم كونه أكثرها تأثيراً في جودة العلاقات الإنسانية، والاستماع الفعال لا يعني مجرد التزام الصمت أثناء حديث الآخر، بل يتطلب حضوراً ذهنياً ووجدانياً صادقاً، وقدرة على فهم المشاعر والمعاني التي قد لا تُقال صراحة، لكنها تنساب بين الكلمات والنبرات ونظرات العيون.. كما أنه يشجع على التواصل المفتوح بين الأفراد، ويبني الثقة والألفة في العلاقات، ويعزز الشعور بالتقدير والاحترام.
في السابق كانت الأمهات يعرفن ما يدور في نفوس أبنائهن من نبرة الصوت أو لمعة العين. أما اليوم فالصورة مختلفة تماماً تمر الأيام، دون أن يلتفت أحد للآخر، والكل مشغول في عزلته الرقمية، الأب والأم والأشقاء والأصدقاء. إن الآخر معك ولكنه ليس معك، فهو دوماً يفوت لحظة الاستماع، لأنه كان يتفقد إشعاراً، أو يكتب رداً سريعاً على تطبيق ما.
إن تكرار هذا السلوك لا يُضعف مهارة الاستماع فقط، بل يُخدّر الإحساس تدريجياً، ويُربينا على السطحية في التفاعل، لأننا نُعطي ردوداً مقتضبة، نُقاطع، ونتسرع بالحكم، ونُهمل التفاصيل الدقيقة التي تُكوّن جوهر الحديث. وما النتيجة؟؟؟ حوارات مبتورة، وعلاقات سطحية، ومشاعر غامضة.
إن فقدان مهارة الاستماع هو فقدان للدفء الإنساني. حيث ترى الآخر يتحدث إليك من قلبه، بينما عقلك يتجول بين الإعلانات ومقاطع الفيديو. أن تنسى كيف تُنصت، يعني أن تفقد مفتاح الفهم والتعاطف، وأن تترك الآخر معلقاً بين كلام قيل، ولم يُسمع..
ربما حان الوقت لنضع هواتفنا جانباً، ولو للحظات في اليوم، ونُعيد اكتشاف متعة الإنصات. أن ننظر في العيون، ونُتابع الكلمات، ونقرأ المشاعر، ونتفاعل بصدق، لنصل إلى قلوب وعقول الآخرين، فالهاتف سيظل هناك، دائماً، أما اللحظات الصادقة فهي لا تتكرر أبداً، فلنعشها ونستمتع بها حتى لايسرقها منا الموبيل الذكي حتى لانكون أغبياء.
* أستاذة جامعية في علم النفس