أصدر مصرف سوريا المركزي قراراً يحذّر فيه من التعامل بالعملات الرقمية وتداولها في سوريا، ما أثار جدلاً خصوصاً بعد انفتاح البلاد على الاستثمارات العربية والغربية، وفي الوقت الذي تتجه دول أخرى نحو مسار مغاير يقوم على التنظيم والتطوير بدلاً من الحظر؛ فالإمارات أسست أطرًا تشريعية متقدمة سمحت بإصدار العملات المستقرة وتداول الأصول الرقمية تحت إشراف رسمي، فيما تبنّت السلفادور البيتكوين كعملة رسمية لدفع عجلة الشمول المالي، أما في الولايات المتحدة فقد تحوّل خطاب الرئيس دونالد ترامب من التشكيك إلى الدعم عبر إقرار أول قانون شامل للعملات المستقرة وإنشاء احتياطي وطني للأصول الرقمية، هذه الفوارق تضع سوريا في موقع المتفرج على ثورة مالية عالمية، بينما بلدان أخرى تحصد ثمار المخاطرة المحسوبة، فيما وضّح خبير اقتصادي حيثيات هذا القرار وتداعياته على اقتصاد سوريا الناشئ.
لماذا يحذّر المركزي من العملات الرقمية؟
في البيان الذي أصدره المركزي السوري، ذكر أن التعامل أو الاستثمار بالعملات المشفرة “غير قانوني” و”غير معتمد” من جانبه، وأن أي عمليات بيع أو شراء بها تُعد باطلة قانونيًا، وبيّن البنك أنّ هذه العملات تفتقر إلى تنظيم قانوني واضح، ما يفتح الباب أمام استغلالها في أنشطة غير مشروعة، ويعرض المتعاملين إلى مخاطرة الملاحقة القضائية، ويجعل استرداد الأموال بعد الخسائر شبه مستحيل.
كما نبه إلى ازدياد عمليات النصب والاحتيال عبر منصات إلكترونية غير موثوقة أو عبر اختراق المحافظ الرقمية، مشيرًا إلى أن التقلبات السعرية الحادة لهذه العملات قد تسبب خسائر فادحة في ظل أوضاع السوق غير المستقرة، ليختم بدعوة المواطنين إلى عدم الانسياق وراء وعود “الأرباح السريعة”.
يقول الخبير الاقتصادي السوري، ملهم الجزماتي، خلال حديث لوكالة ستيب نيوز: “يمكن تفسير تحذير البنك المركزي السوري من العملات الرقمية تحت بند حماية المواطن السوري وذلك في ظل غياب البنية التحتية التنظيمية والقانونية حيث لا يوجد حتى اليوم إطار قانوني وتنظيمي واضح للعملات الرقمية في سوريا، وبالتالي يصبح المواطن عرضة لعمليات النصب والاحتيال”.
ويوضح أن المركزي السوري يرغب بالحفاظ على الاستقرار المالي والنقدي داخل سوريا، في الوقت الذي تعتبر فيه عمليات المضاربة على العملات الرقمية عالية المخاطر بسبب التقلبات السعرية التي يتميز بها هذا النوع من المضاربات.
ويؤكد أن تحذير البنك المركزي لا يتعارض بالضرورة مع سياسة الانفتاح، بل هو جزء من استراتيجية تهدف إلى حماية الاقتصاد والمواطنين من المخاطر غير المدروسة، وضمان أن يتم الانفتاح على أسس قوية ومستقرة.
تنظيم العمل بدل التحذير منه
كانت تجارب عدة دول مثل الإمارات والسلفادور وحتى أوكرانيا وسنغافورة، ومؤخراً أمريكا التي بدأت تشرّع قوانين لتنظيم هذه العمليات التجارية، تعد تجارباً مميزة ورائدة، وفي اقتصاد ناشئ مثل اقتصاد سوريا يتبادر أسئلة حول إمكانية تنظيم هذه العمليات بدل حظرها.
يقول الجزماتي: “العملات الرقمية تتميز بطبيعتها اللامركزية والعابرة للحدود، مما يجعل من الصعب على أي بنك مركزي فرض رقابة فعالة عليها بالطرق التقليدية”.
ويشير إلى أنه في الحالة السورية يغيب الإطار القانوني والتنظيمي الشامل لهذا النوع من الشركات، حيث إن ترخيص مثل هذا النوع من الشركات يتطلب قانوناً خاصاً، وبالتالي لا يمكن للبنك المركزي ترخيص أي نشاط مالي دون وجود قانون أو تشريع ينظم هذا النشاط ويحدد صلاحيات البنك في الرقابة عليه.
ويضيف: ” وجود هذا النوع من الشركات يتطلب خبرات فنية وتقنية عالية للإشراف عليها وممارسة الرقابة المالية والقانونية عليها، وهي مازالت غير متوفرة بشكل كافٍ لدى الجهات الرقابية في هذه المرحلة”.
ويؤكد الخبير أن البنك المركزي يتبع نهجاً حذراً ومنهجياً، حيث يرى أن التحذير من المخاطر هو الخطوة الأولى والضرورية في هذه المرحلة، على أن تليها خطوات أخرى مثل الدراسة ووضع الأطر التنظيمية المناسبة قبل التفكير في منح التراخيص.
مستوى تحذير مرتفع
كان تحذير المركزي السوري شديد اللهجة، حيث نوّه في البيان للمخاطر وعدم قانونية التعامل بالعملات الرقمية، مما يمهد ربما لملاحقة قانونية للمتعاملين بهذه العملات داخل البلاد.
يوضح ملهم الجزماتي أن مستوى التحذير في سوريا يعتبر مرتفعاً جداً، فبيان البنك المركزي لم يكتفِ بالتحذير، بل أكد على أن التعامل بالعملات الرقمية “غير قانوني” وأن أي عمليات بيع أو شراء بها تعتبر “باطلة قانونياً”. هذا يعني أن المتعاملين لا يتمتعون بأي حماية قانونية.
ويقول: ” في سوق ناشئ مثل السوق السوري، قد يكون الوعي المالي والمخاطر المرتبطة بالاستثمارات الجديدة مرتفعاً، مما يجعل المواطنين أكثر عرضة للوعود بالأرباح السريعة والوقوع ضحية لعمليات الاحتيال، وقد يرى البعض في العملات الرقمية فرصة استثمارية في ظل محدودية الخيارات الأخرى، مما يدفعهم إلى تحمل مخاطر عالية دون دراسة كافية”.
ويشير إلى أنه بسبب العقوبات السابقة المفروضة على سوريا والتي يجري رفعها تدريجياً، قد يجد المتعاملون السوريون صعوبة في الوصول إلى منصات التداول العالمية الموثوقة، مما يضطرهم إلى التعامل مع وسطاء أو منصات غير آمنة.
تأثير محتمل على الليرة السورية
جاء تحذير المركزي السوري بالوقت الذي شهدت قيمة صرف الليرة السورية تذبذباً طفيفاً مؤخراً بعد أشهر من الاستقرار النسبي، ليطرح السؤال حول علاقة وتأثير العملات الرقمية في حال طرحها بقيمة العملة المحلية.
يرى الجزماتي أنه في حال تم اعتماد العملات الرقمية على نطاق واسع من قبل التجار في سوريا دون وجود تنظيم ورقابة، فإن ذلك قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية كبيرة على العملة المحلية والتجارة السورية.
ويقول: ” يكون ذلك من خلال اعتماد بعض التجار والمواطنين على استخدام العملات الرقمية كوسيلة للتبادل وتخزين القيمة “الدولرة الرقمية”، فإن ذلك سيؤدي إلى تآكل الثقة في الليرة السورية وتقليل الطلب عليها، مما يضغط على سعر صرفها، إضافة إلى فقدان المركزي السوري القدرة على التحكم في المعروض النقدي الأمر الذي سيؤثر سلبا على تطبيق سياسته النقدية”.
ويلفت أيضاً إلى أنه يمكن أن تُستخدم العملات الرقمية كأداة سهلة لتهريب رؤوس الأموال إلى خارج البلاد، مما يؤثر على احتياطيات النقد الأجنبي، إضافة إلى زيادة الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية ونمو الاقتصاد الموازي (اقتصاد الظل).
ويؤكد على أنه لهذه الأسباب تحرص معظم البنوك المركزية في العالم، بما في ذلك البنك المركزي السوري، على التعامل بحذر شديد مع مسألة اعتماد العملات الرقمية في التجارة المحلية، وتفضل أن يتم ذلك ضمن إطار تنظيمي محكم يضمن حماية العملة الوطنية واستقرار النظام الاقتصادي.
ما هو مستقبل العملات الرقمية في سوريا
رغم المخاطر التي يوضحها الخبير إلا أن تشريعات تنظيمية صارمة مثل المتبعة في دولة الإمارات قد تحّد من المخاطر وتفتح أبواباً أكبر وأسهل لرؤوس الأموال والشركات الداخلة للسوق السورية.
وحول مستقبل العملات الرقمية في سوريا يرى الجزماتي أنه من المرجح أن يستمر البنك المركزي في سياسته الحالية المتمثلة في التحذير من مخاطر العملات الرقمية ومنع تداولها بشكل رسمي، والتركيز على تعزيز النظام المصرفي التقليدي، وتطوير خدمات الدفع الالكتروني على المدى القصير.
ويضيف: ” على المدى المتوسط مع استقرار الوضع الاقتصادي وتطور النظام المالي، قد يبدأ البنك المركزي في دراسة إمكانية تنظيم بعض جوانب التعامل بالعملات الرقمية، مستفيداً من تجارب الدول الأخرى، خاصة في المنطقة العربية”.
ويتابع: “بعد ذلك قد يتم وضع إطار قانوني متكامل يسمح بترخيص شركات متخصصة في مجال الأصول الرقمية، مع فرض متطلبات صارمة لمكافحة غسل الأموال وحماية المستهلك”.
ويختم بالتأكيد على أن مستقبل العملات الرقمية في سوريا سيكون على الأرجح مساراً تدريجياً وحذراً، يبدأ بالتحذير، ثم ينتقل إلى الدراسة والتنظيم التجريبي، وقد يصل في النهاية إلى التكامل المنظم مع النظام المالي، مشدداً على أن هذا النهج يهدف إلى تحقيق التوازن بين الاستفادة من الابتكارات التكنولوجية وحماية الاقتصاد الوطني من المخاطر الكبيرة التي قد تترتب عليها.
وبينما تنجح بعض الدول في تحويل التحدي إلى فرصة، يبقى السؤال مفتوحاً: هل سيشهد الاقتصاد السوري يوماً تحولاً رقمياً منظماً، أم أن التحذيرات ستظل العنوان العريض لمرحلة طويلة قادمة؟
اقرأ أيضاً|| الليرة السورية إلى أين بعد رفع العقوبات؟.. خبير يحذّر من “فخ” ويكشف عن خيارين أمام الحكومة

المصدر: وكالة ستيب الاخبارية