كانت الصفة الأهم التي ميزت “صبيان البعث” إثر قفزهم على السلطة في سوريا على وقع انقلابهم العسكري عام 1963 هي شراستهم الدموية في سبيل تثبيت الحكم.

عدة انقلابات عسكرية كانت قد حصلت في سوريا وفي أغلبها كانت سلمية ودون دماء. ويذكر باتريك سيل أن العقوبة التقليدية كانت وبعد انتصار الانقلاب هي أن المنتصر كان يرسل المهزومين سفراء إلى مدريد أو أمريكا اللاتينية بوصفها منافي تقليدية يتقاعدوا فيها.

تقاليد الانقلابات اللادموية انتهت مع وصول زمرة البعث إلى السلطة في آذار 1963 وبدأت مرحلة جديدة في التاريخ السوري عنوانها التوحش في الدفاع عن السلطة. 

كان مايلز كوبلند في كتابه الشهير عن لعبة الأمم قد ذكر عارضاً بدء استعانة أنظمة المنطقة بالخبراء الأمنيين النازيين الهاربين من ألمانيا الفاشية بعد الحرب العالمية الثانية وتوظيفهم بوصفهم مستشارين في الجيوش والاستخبارات من أجل مساعدتها في تنظيم أجهزة القمع.

وكان ذلك يتم برواتب عالية وبمساعدة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وزمرة البعث لم تتوانى عن ذلك، أغلب الظن استخدمهم الحافظ وجديد بعد نجاح انقلابهم الذي عمدوه بالدماء والاقتتال الداخلي.

 

نظرية “تجفيف المنابع”:

ربما يعود التاريخ الأول لتطبيق نظرية “تجفيف المنابع” في سوريا إلى نيسان 1964 في قمع انتفاضة حماة.

هذه النظرية ذات الجذور النازية بكل تأكيد والتي مفادها أن مناطق الانتفاضات الشعبية والحراك الشعبي والجماهيري يمكن قصفها قصف عشوائي عبر الأسلحة الثقيلة المتوفرة كأفضل أداة وطريقة لتخميد الاضطرابات فيها وبأسرع وقت.

إنها نظرية يتم تطبيقها ببساطة عبر وضع مرابض المدفعية والسلاح الثقيل وغيرها على تلال المدن المأهولة ثم الضرب بشكل عشوائي.

ومن المهم أن يكون القصف عشوائي لكي يكون الأثر المعنوي أكبر، مع ضرورة خلق أكبر قدر من الدمار والضحايا لما من شأنه قهر إرادة المنتفضين وكسر عزيمة التمرد لديهم.

ورث حافظ الأسد النظرية، واستخدمها بشكل ممنهج ومنظم أكثر، في حماة 1982.

وعندما وصل الى نتائج مرضية أعاد استخدامها على دزينة من المدن اللبنانية خلال الحرب الأهلية اللبنانية من عام 1975 إلى عام 1991. من تل الزعتر إلى بيروت الغربية إلى طرابلس إلى المخيمات الفلسطينية في الشمال والشرق والجنوب.. أعاد استخدام “النظرية” مرة بعد مرة، خاصة أنها كانت سهلة التطبيق.

استخدام التلال والمرابض المحيطة بالبلدات والمدن ومن ثم قصفها بمن فيها بشكل عشوائي بمثابة عملية عقاب جماعي الغرض منه “تطهير المدينة” وخلق حالة نفور داخلية فيها ضد كل تمرد أو عصيان لما يخلفه من دمار وخراب عشوائي عصي عن الفهم.

قد يكون حجم القوة المقاومة داخل المدينة بضع عشرات من المسلحين بأسلحة خفيفة أو رشاشات بسيطة، ولكن ذلك غير مهم. ستقصف المدينة بوصفها حاضنة شعبية لهم، لتكون النتيجة “تجفيف منابع” التمرد داخلها.

عملية القصف بحسب هذه النظرية وهذا التكتيك لا يستهدف القوة العسكرية المعادية، بل يستهدف المدنيين تحديداً. يجب أن تصبح المدينة مضرباً للمثل بخرابها ودمارها، بحيث تمتنع بقية المدن عن التمرد، وتخضع المدينة نفسها بأسرع وقت. وبحيث يصبح هناك حالة نفور شعبية وأهلية من كل مقاومة أو قوة تمرد خوفاً من العنف المكثف والغير متناسب مع حجم القوة المتمردة.

والأثر الذي يخلفه القصف العسكري للمدن المأهولة بهذه العشوائية عموماً يترك بصمة لا تنمحي في الحالة النفسية والمعنوية للسكان، وتخلق حالة من الاستكانة والاستسلام والخضوع (مرغوبة جداً من قبل السلطات القمعية).

بشار الأسد بعد أبيه كان قد وصل إلى مستويات غير مسبوقة في تطبيق النظرية الرهيبة. سواء على صعيد الأسلحة المستخدمة أو على صعيد نطاق الاستخدام وحجمه.

فقد كسر الأسد الابن كل الأرقام القياسية. لقد وصل قصف المدن لديه إلى مثابة عمل روتيني مارسته قواته على مدار خمسة عشر عام سوّى من خلالها مدنا كاملة بالأرض.

من المدفعية إلى الصواريخ إلى الصواريخ العابرة للقارات انتهاءاً بالكيماوي مروراً بكافة أنواع الطيران.

وعندما انتهت مخازن أسلحته استعان بمخازن السلاح الروسية. ولم يكتفي بقصف المدن بل طور العملية بشكل ممنهج ومنظم لتطال البلدات والقرى وحتى البوادي البعيدة، ليظهر لدينا في نهاية الحرب مشهداً سوريالياً خرافياً يكاد لا يمكن استيعابه عن حجم الخراب والدمار الذي خلفه.

وليهرب بعدها تاركاً أثر ربما سنحتاج عقود لتجاوزه. المشهد الذي خلفه ذلك “المعتوه” مع عصابته الوحشية والتي تقطن في مساكنها الفارهة في أبراج موسكو اليوم، يجعل أي مراقب خارجي يتساءل عند مروره في هذه المدن والبلدات والقرى والخرائب المدمرة: أي تتار أو مغول مروا من هنا؟

 

لمحة سريعة عن خريطة النزوح السورية:

بلغت أعداد النازحين داخلياً في أواخر 2011 ما يقارب 600 ألف شخص. لتتزايد بعدها على أثر التطبيق المنظم لنظرية “تجفيف المنابع” إلى 7،6 مليون نازح في أواخر 2014. ثم تراجعت عن ذروتها في السنوات اللاحقة لتصل الى 6،1 مليون نازح في 2018، ثم لتعاود الصعود إلى أكثر من 7 مليون في أواخر 2023 وفقاً لبيانات مركز رصد النزوح الداخلي.

وكان قد تم توثيق الأرقام وتأكيدها عن طريق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (اوتشا) وتستمر الأرقام على حالها تقريباً حتى عام 2025.

الحقائق الأساسية عن مخيمات النزوح هي أنها أصابت وبشكل رئيسي الفئات الأكثر ضعفاً وهشاشة وفقراً في المجتمع. أي تلك الفئات التي لا تستطيع السفر واللجوء الخارجي أو الانتقال إلى مدن حضرية للاستقرار فيها.

 77% من النازحين يندرجون ضمن الشرائح الأكثر احتياجاً من حيث الفقر والعوز المادي، أي أنهم تحت خط الفقر بكثير.

ذلك هو المشهد الذي خلفه لنا إرث الأسد الثقيل مخيمات مليونية مترامية الأطراف من النساء والأطفال والمدنيين تمتد على مرامي النظر.

إرث رهيب من البؤس تركه لنا قبل أن يهرب مع عائلته تاركاً خراباً يحتاج أجيالاً لإعادة إصلاحه وإعماره. إنه إرث الأسد، إرث مخيمات اللجوء والنزوح السورية، الجرح الوطني الأكبر اليوم وجرح الحرب السورية الأكبر، وإرثها الأثقل.

وكل بناء وطني حقيقي اليوم لا يمكن إلا أن يبدأ منه وفيه.

مقال رأي|| تجفيف المنابع: الوصفة “النازية” التي صنعت مخيمات النزوح السوري

المصدر: وكالة ستيب الاخبارية

شاركها.