جدّدت التظاهرات ضد المهاجرين في بريطانيا الجدل بشأن “أزمة الهجرة واللجوء”، بين تيار يصور القضية كـ”فزّاعة” يستغلها لرفع أسهمه الانتخابية، وتيار آخر يضم حزبيين وناشطين، يرى أن المشكلة مُضخّمة.

النائب في مجلس العموم البريطاني، ووزير العدل في حكومة الظل (المعارضة) روبرت جينريك، عَكَسَ وجهة نظر التيار الأول، مؤكداً أن صبر البريطانيين قد نفد إزاء قوارب المهاجرين الذين يعبرون بها القناة الإنجليزية (بحر المانش)، وذلك خلال مشاركته غير المسبوقة في مسيرة مناهضة للاجئين يوم 17 أغسطس الجاري. 

وحضر جينريك فعالية شارك اليمين المتطرف في تنظيمها، أمام فندق بيل في منطقة إيبينج، جنوب إنجلترا، وفق صحيفة “الجارديان” البريطانية، كما نشر صوراً له خلال زيارته للاحتجاجات المناهضة للاجئين، على منصة “إكس”.

وبحسب الصحيفة البريطانية، فإن حزب العمال وصف حضور جينريك لمثل هذه الفعاليات بـ”العار”، وقال المتحدث باسم الحزب: “حضوره احتجاجات نظمها حزب يميني متطرف يدل على سوء تقدر مريع”.

وكتب جينريك على “إكس”: “تهانينا لأهالي إيبينج! لقد احتجوا وتعرضوا للتشهير، لكنهم انتصروا.. لا يمكن أن يكون الحل بنقل المهاجرين غير الشرعيين إلى مجتمعات أخرى.. الحكومة السابقة فشلت ولم تستمع، ورئيس الوزراء الحالي كير ستارمر يزيد الأمر سوءاً”.

وأضاف: “يجب تغيير القوانين، وإبرام اتفاقيات مع دول ثالثة، وترحيل كل من دخل البلاد بشكل غير قانوني”.

وتعد تلك الانتقادات التي وُجّهت إلى جيرنيك دليلاً إضافياً يدعم من يتهمون حزب المحافظين، وحزب “Reform” (الإصلاح)، باستخدام ملف الهجرة كـ”فزّاعة” انتخابية، بهدف كسب أصوات الناخبين الممتعضين من ظاهرة المهاجرين، دون تورع عن التحريض على الاعتصامات أمام الفنادق التي يُؤوى فيها طالبو اللجوء، إلى حين البت في طلباتهم.

انقسام مجتمعي حول الهجرة

هذه النوعية من المظاهرات، التي تخلّل بعضها أعمال عنف وشغب وتعدٍّ على الممتلكات العامة، تعد الوجه الصارخ للانقسام المجتمعي حول أزمة الهجرة واللجوء في البلاد، وفقاً لـ”دانيل سوهاج” مدير منظمة Stand For All للدفاع عن حقوق الإنسان، الذي قال إن “مثل هذه النوعيات من المظاهرات لا تعكس بالضرورة زيادة مستوى العنصرية وكراهية الأجانب في الشارع البريطاني”. 

وأضاف في حديث لـ”الشرق”: “البلاد تعيش أزمة غلاء حادة، وكثير من أبناء الطبقة الكادحة يعانون لتوفير احتياجاتهم الأساسية، ويسهل تضليلهم واستغلالهم”، مشيراً إلى أن الدولة تسكن اللاجئين في الفنادق، بينما الطبقة الكادحة بالكاد قادرة على دفع إيجارات منازلهم.

وتابع: “ليس جميع اللاجئين أبرياء، فبعضهم يتورط في جرائم، قد تشمل التحرش بالنساء”، مؤكداً أن تلك الجرائم يستخدمها اليمين المتطرف لزرع الخوف من الأغراب، وما يعرف بمصطلح الزينوفوبيا (Xenophobia)  أي “رهاب الأجانب”.

 وأشار سوهاج إلى حوادث اعتداء اتهم فيها طالبو لجوء، كانت آخرها في فندق بمنطقة إيبينج، جنوب إنجلترا، لكنه أشار إلى مفارقة أخرى وهي أن “40% من المتظاهرين المناهضين للمهاجرين الذين أُلقي القبض عليهم العام الماضي في أحداث الشغب المناهضة للاجئين، أدينوا في قضايا عنف منزلي، أي أنهم اعتدوا على نساء وأطفال، ورغم ذلك نظموا مظاهرات ضد اللاجئين تحت شعارات فلنحمي نساءنا وأطفالنا”.

من جانبه لفت نائب رئيس البرلمان البريطاني السابق، نايجل إيفانس، وهو قيادي بارز في حزب المحافظين المعارض، إلى أنه من الخطأ التقليل من خطورة أزمة الهجرة واللجوء أو اعتبارها مبالغة إعلامية. 

وأضاف في تصريح خاص لـ”الشرق”: “في السابق كان أي شخص يجرؤ على القول إن الظاهرة باتت مشكلة حقيقية، يُتهم فوراً بالعنصرية أو بكراهية الأجانب”.

وأوضح إيفانس أن الحكومة الحالية أدركت فشل هذا النهج، وبدأت تتحدث بصراحة عن تعقيدات الملف، واستشهد بتصريحات رئيس الوزراء كير ستارمر، الذي قال إن “الكثير من البريطانيين باتوا يشعرون وكأنهم يعيشون في جزيرة من الغرباء”.

وكان ستارمر أعرب عن ندمه في يونيو الماضي، لاستخدامه تعبير “جزيرة من الغرباء” خلال مقابلة مع صحيفة The Observer البريطانية الأسبوعية.

وقال: “لم أكن لأستخدم تلك الكلمات لو كنت أعلم أنها ستُفسر كصدى لخطاب السياسي اليميني البريطاني إينوك باول”.

وباول هو سياسي بريطاني بارز من حزب المحافظين، اشتهر بمواقفه المناهضة للهجرة، وألقى عام 1968 خطاباً شهيراً في برمنجهام، ركّز فيه على الهجرة من دول الكومنولث (مثل الهند وباكستان وجزر الكاريبي)، هاجم فيه سياسات الحكومة التي كانت تسمح بزيادة عدد المهاجرين ومنحهم حقوق الإقامة والمواطنة، وقد عُرف لاحقاً باسم “خطاب الأنهار من الدم”.

وأوضح ستارمر خلال المقابلة أنه لا يبحث عن أعذار، لكنه أشار إلى أن ذهنيته لم تكن في أفضل حال بعد تعرض منزله لحريق متعمد، في تصريح يعكس اعتراف ستارمر بعدم اقتناعه بلغة خطابه، لكنه لم يتراجع عن السياسات التي أعلنها.

هجرة الزوارق الصغيرة

السياسي المخضرم، إيفانس، الذي خسر مقعده في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، استند في حديثه إلى أرقام وإحصائيات، إذ ذكر أن “هناك أزمة حقيقية في القناة الإنجليزية بسبب الهجرة غير الشرعية، إذ وصل حوالي 50 ألف مهاجر غير شرعي إلى بريطانيا عبر زوارق صغيرة”. 

وأضاف أن لهذا الأمر تأثيراً سلبياً على المجتمعات المحلية التي تُسكن فيها هذه الفئة، مع إنفاق مليارات الجنيهات على إيوائهم، وارتفاع محدود في نسبة الجريمة.

ووفقاً لهيئة الإذاعة البريطانية “BBC” الأسبوع الماضي، فإن الإحصائية، توضح أن هذا الرقم تقريباً يمثل مجموع المهاجرين غير الشرعيين الذين دخلوا البلاد منذ تولي حزب العمال السلطة في يوليو 2024.

وبيّنت هيئة الإذاعة البريطانية أنه حتى 11 أغسطس 2025، عبر 27029 مهاجراً للقناة الإنجليزية في قوارب، مقارنة بـ18342 في نفس الفترة من عام 2024. 

أما في ظل الحكومة المحافظة السابقة، فقد وصل عدد المهاجرين غير الشرعيين عبر القناة بين 8 أكتوبر 2021 و14 نوفمبر 2022 إلى 53587 مهاجراً.

وبلغ عدد الأشخاص الذين عبروا القناة الإنجليزية على متن قوارب صغيرة منذ بدء وزارة الداخلية في إصدار البيانات، في 3 نوفمبر 2018، نحو 150053 شخصاً، حتى 28 ديسمبر 2024، وفقاً لإحصائيات هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) وأكدت وزارة الداخلية أنها “لن تتوقف عند أي شيء” في سبيل تفكيك شبكات تهريب البشر.

وفي عام 2024 وصل إجمالي عدد الوافدين بهذه الطريقة إلى 36022 شخصاً، متجاوزاً عدد عام 2023 الذي بلغ 29437. فيما سجل عام 2022 أعلى رقم سنوي حين وصل عدد الوافدين إلى 45730 شخصاً.

“مبالغة وليست أزمة”

يرى مدير مؤسسة “باريتو” للأبحاث الاقتصادية، كليزمان موراتي، أن الأرقام والإحصائيات يمكن أن تتغير دلالاتها “إذا أُخرجت من سياقها”، موضحاً أن استخدام مصطلح “أزمة” لوصف مسألة الهجرة واللجوء في بريطانيا يُعدّ مبالغة.

وأضاف في حديث لـ”الشرق”: “قد تكون هناك مشكلة، لكنها ليست حادّة؛ فأرقام الهجرة في تراجع، ونسبة الهجرة غير الشرعية لا تتجاوز 4%، إذ إن 96% من القادمين يدخلون المملكة المتحدة بشكل قانوني”.

ويتوافق حديث موراتي مع ما نشره مكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني، ومع بيانات الحكومة البريطانية نفسها؛ فعلى سبيل المثال، بلغ صافي أعداد المهاجرين إلى بريطانيا في عام 2022 لأغراض العمل أو الدراسة أو غيرها نحو 745 ألف شخص، غالبيتهم استفادوا من برامج استقدام قانونية، كالتأشيرة الإنسانية الاستثنائية لمواطني هونج كونج، والتي استفاد منها نحو 150 ألف شخص، بالإضافة إلى برنامج مماثل لأوكرانيا استفاد منه نحو 200 ألف شخص.

وتُظهر الأرقام الحكومية أيضاً ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الحاصلين على تأشيرات الدراسة؛ ففي الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2025 وحده، حصل 48 ألف طالب على تأشيرات للدراسة في المملكة المتحدة، وينطبق الأمر ذاته على برامج استقدام الكفاءات في مجالات الصحة، وتقنية المعلومات، والتخصصات الدقيقة.

وتعتقد الباحثة بجامعة برمنجهام، نورا بار، أن المشكلة الحقيقية تكمن في فشل الحكومات المتعاقبة في وضع استراتيجية متماسكة ومنطقية، للتعامل مع ملف الهجرة واللجوء.

وقالت لـ”الشرق” إن بريطانيا وضعت شروطاً معقدة ومركّبة للحصول على التأشيرات، ثم أدركت لاحقاً أنها غير قابلة للتطبيق في كثير من الحالات، فلجأت إلى استحداث استثناءات لتسهيل الحصول عليها، من بينها تجاوز شرط البصمة البيومترية”.

غُربة داخلية وتقصير الحكومات

أزمة غياب استراتيجية واضحة لإدارة ملف الهجرة، هي من أبرز النقاط التي شدد عليها كليزمان موراتي، الذي قال إن الحكومات البريطانية المتعاقبة، سواء بقيادة المحافظين أو العمال، اتسمت بالتخبط الشديد، حتى وصل الأمر إلى إدانة بعض برامج وزارة الداخلية من قبل الأمم المتحدة.

ومن بين هذه البرامج: إيواء المهاجرين غير النظاميين في مراكز عائمة، أو حرمانهم من حق اللجوء إذا دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية، وصولاً إلى خطط ترحيلهم إلى رواندا، وكلها سياسات لم تُكتب لها الاستمرارية أو النجاح.

ويرى موراتي أنه “لا يمكن إنكار أن بعض البريطانيين يشعرون بأنهم غرباء في بلدهم، لكن صناع القرار لا يصارحون الناس بأن بريطانيا تعاني من فجوة حادة في الكفاءات، وأن قطاع الأعمال مضطر لاستقدام عمالة من الخارج”، معتبراً أن “إشغال الرأي العام بهاجس الهجرة واللجوء أسهل على السياسيين من وضع خطة تنمية حقيقية وتأهيل العمالة المحلية المتخصصة”.

ويتقاطع رأي موراتي مع ما يطرحه دانيل سوهاج، الذي يرى أن “الأصوات السياسية نفسها التي دفعت البلاد للخروج من الاتحاد الأوروبي، بذريعة السيطرة على الحدود وتقليص أعداد المهاجرين من رومانيا وبلغاريا الذين دخلوا سوق العمل، هي اليوم من تُحرّض ضد اللاجئين وتغذّي الخوف منهم”.

في المقابل، يرفض النائب السابق نايجل إيفانس هذا الطرح، ويؤكد أنه لا علاقة بين خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتعقيدات في ملف الهجرة.

ويقترح إيفانس حلاً يقوم على اتخاذ إجراءات مشددة، من بينها اعتبار كل من يدخل بريطانيا عبر قارب صغير مذنباً بارتكاب جريمة، ونقله إلى مراكز احتجاز، والتعامل مع ملفه بسرعة، ثم ترحيله إلى بلده أو إلى بلد ثالث، كما يشمل اقتراحه أخذ بصمات الوافد وعينات من حمضه النووي، ومنعه من دخول البلاد مدى الحياة، حتى عبر طرق قانونية.

مليارات الدولارات لإيواء اللاجئين

انتقاد الرأي الذي يطرحه صقور اليمين البريطاني، مثل نايجل إيفانس، لا يعني أن نظام اللجوء في  بريطانيا ليس مُثقلاً بالأعباء، فمع نهاية عام 2024، كان هناك نحو 91 ألف طلب لجوء عالق لدى وزارة الداخلية البريطانية، بينما بلغت تكاليف إيواء طالبي اللجوء نحو 8 ملايين جنيه إسترليني يومياً، نتيجة بطء معالجة الطلبات وتعقيد الإجراءات القانونية، وفق إحصاء أجرته وزارة الداخلية عام 2023.

لكن تقريراً أشارت له صحيفة “الجارديان”، صادر عن مكتب التدقيق الوطني، الهيئة المكلفة بمراقبة الإنفاق الحكومي، قدَّر تكلفة إيواء اللاجئين غير النظاميين بنحو 15.3 مليار جنيه إسترليني (أي ما يُعادل 20.6 مليار دولار أميركي) خلال 10 سنوات.

ويُعبّر إيفانس عن قلقه من أن حتى البرامج المقترحة لتسريع النظر في الطلبات قد تخلق مشكلات جديدة، مثل تشريد طالبي اللجوء، إذ يُرغمون على مغادرة مراكز الإيواء المؤقت فور صدور القرار بشأن طلبهم.

أما دانيل سوهاج، فيرى أن المسألة لن تُحل في القريب العاجل ولا في المستقبل المنظور، لأن هناك قوى سياسية مستفيدة من استمرار الأزمة، معتبراً أن أصل المشكلة يتعلق بالخطاب السياسي السائد، وإغلاق طرق تقديم طلبات اللجوء القانونية، والتخويف من اللاجئين القادمين في القوارب المطاطية عبر “المانش”.

وأضاف أن هذا الخطاب يضمن شحن الرأي العام، وكسب أصوات الناخبين من الفئات الأكثر فقراً، لافتاً إلى أهمية “قوة الصورة”، التي يعتبرها أكثر تأثيراً من الأرقام. 

وقال: “لقطة واحدة لشباب يعبرون البحر ويصلون إلى الشاطئ، تُحدث تأثيراً أقوى من أي إحصائية عن عدد من حصلوا على التأشيرات بشكل قانوني.. أصحاب الأصوات المرتفعة والمعادية للاجئين، هم أكثر من لا يريدون حل المشكلة”.

شاركها.