ريم الحامدية
على امتداد تعاقب العصور تناقل الناس مثلًا بسيطًا يقول: “البعيد عن العين بعيد عن القلب”. ولكن هل يمكن لقلوبنا أن تُختزل في هذا المعنى؟ هل كل من غاب عن أبصارنا يذوب حضوره من أرواحنا؟
إننا أحيانًا ندرك حين تبعدنا الحياة بمنعطفاتها أن المسافة لا تُقاس بالأميال، بل بما يتركه حضورهم فينا. فكم من شخص افترق بجسده، لكنه ما زال مقيمًا في تفاصيلنا، حيًّا في الذاكرة، نابضًا في عمق القلب. هناك من لا يعبرهم الزمن، ولا تجرفهم المسافات، بل يزداد حضورهم رسوخًا كلما ابتعدوا، كأن البعد يزيدهم قربًا، وكأن الغياب لا يزيد إلا من شعورنا بالحضور.
الأمكنة تتبدل، والخطى تأخذنا إلى طرق لا نعرف نهاياتها، لكن تلك الأرواح التي تعلقت بنا في لحظة دفء تظل تنبض في دواخلنا مهما تغيّر الظرف، أو ابتعدت المسافات، أو طال الغياب.
ولأننا حين نذكر المسافات لا نعني فقط طول الطريق، ولا البعد الجغرافي المرسوم على الخرائط والمقاس بالأميال، فإن المسافة أحيانًا تكون شعورًا خفيًا يختبئ في قلب لحظة لا تُقال، في إحساس لا يمكن الإمساك به، حين يشعر القلب فجأة بأن شيئًا من دفئه قد انطفأ، قد نكون قريبين جدًا من بعض الأشخاص، لكن أرواحنا تكون بعيدة عنهم آلاف الأميال، وفي المقابل هناك من تفصلنا عنهم مدن وجبال وأقدار كثيرة، ومع ذلك يعيشون في أعماقنا، نسمع أصواتهم في كل الزوايا، ونستحضر ملامحهم في أدق تفاصيل أوقاتنا، لذلك أؤمن بأن المسافة ليست في المكان، بل في القدرة على البقاء داخل القلب.
ربما نشعر بكل ذلك لأن طبيعتنا البشرية لا تُدرك قيمة الأشياء حتى نفتقدها، فتصبح اللحظات العادية أكثر عمقًا وامتلاءً، وتتسع مساحة التفكير مع البُعد، فتبدأ الأحاسيس في إعادة رسم الوجوه التي أحببناها بملامح أكثر رقة، وهكذا يولد التعلق الحقيقي من رحم المسافة؛ فالقلب حين يرفض فكرة الفراغ يملأه بأصواتهم وصورهم وذكرياتهم، ويبقيهم قريبين حتى لا يسمح للغياب بأن ينتصر.
وفي أحيان كثيرة، تتغيّر العلاقات تحت مسمى الظروف، فيُجبرنا البُعد الذي لم نختَرْه على إعادة تعريف حضورهم في حياتنا. عندها فقط ندرك أن البعد ليس مجرد اختيار شخصي، بل مسؤولية مشتركة لا بد أن تُبنى على اتفاق واضح يحفظ قيمة العلاقة في القلب، فلا يُلقي بها إلى دائرة الإهمال. وهنا يتولد سؤال حقيقي:
هل نعذر “البعيد” لأنه بعيد، أم نُعاتب “القريب” لأنه لم يعد قريبًا؟
المسافات في الحقيقة لا تختبر من يحبنا، بل تختبر صدق ما نحمله في قلوبنا. ففي الغياب تتجرد العلاقات من مجاملاتها وظروفها، وتبقى فقط المحبة النقية التي لا تخضع لقياس أو امتحان، إنها تُصفي وتُغربل وتُبقي فقط من يستحق أن يظل في القلب.
وفي النهاية، لا يمكننا أن نحكم على القلوب بمقاييس المسافة أو الزمن، لكن بوسعنا أن نمنح من نُحب شعورًا دائمًا بأنهم حاضرون في الذاكرة والوجدان، حتى وإن حالت الظروف بيننا وبينهم، فالمسافة لا تُخفي الحب، ولا تقلل منه، بل تُنضجه وتجعله أكثر صدقًا وعمقًا كلما ازدادت الغربة.
لذا، ما أجمل أن نحافظ على خيط الشعور ولو كان خفيفًا، أن نروي ذاكرة القلب بإشارة، بكلمة، بالتفاتة صغيرة لا تكلّف شيئًا لكنها تبقي الأبواب مفتوحة وتقول بصوت رقيق: ما زلت هنا مهما ابتعدت.
تعاقبنا المسافات بما يكفي، فلا تزيد الأمر سوءًا، ودعنا نقترب على الأقل برسالة.