يستقطب مهرجان الإبحار في أمستردام، الذي تنظّمه المدينة كل خمس سنوات، أكثر من مليوني مشارك ومتفرّج من أنحاء العالم، إذ يعدّ واحداً من أبرز الفعاليات البحرية العالمية، وأكثرها تأثيراً في المجالين الثقافي والسياحي.
انطلق المهرجان في هولندا للمرّة الأولى سنة 1975، احتفالاً بالذكرى 700 لتأسيس المدينة، ومنذ ذلك التاريخ أصبح تقليداً تنتظره المدينة، يربط الماضي البحري بالحاضر التكنولوجي.
يستعرض المهرجان السفن والزوارق التراثية، والسفن الشراعية الكبرى التي تضم أسطولاً متنوعاً يشمل السفن العسكرية التي تستعرض القوّة البحرية، السفن التراثية الهولندية مثل مراكب الصيد وسفن الشحن الخشبية، وخصوصاً سفينة “مدينة أمستردام”، فضلاً عن اليخوت الحديثة المزوّدة بأحدث التقنيات، والغواصات، وسفن التدريب البحرية، وقوارب الإنقاذ والعبّارات.
شكّلت دورة عام 2020 استثناءً تاريخياً، إذ تمّ إلغاؤها للمرة الأولى منذ التأسيس بسبب الجائحة، ومع ذلك، جاءت عودة المهرجان 2025 لتؤكد مرونة المؤسسات الثقافية، وقدرتها على تحويل الانقطاع إلى مناسبة للاحتفاء بتاريخ المدينة وتجديد هويتها البحرية.
تصف الأدبيات البحرية الهولندين بـ”القراصنة”، فهم بسطوا هيمنتهم على البحار لنحو 150 عاماً، في إطار ما عُرف بـ”إمبراطورية الرياح الموسمية”، حتى بلغوا سواحل عكا ويافا ومسقط.
الأبعاد الدولية للمشاركة
يمتاز المهرجان بكونه حدثاً عابراً للحدود، تشارك فيه سفن عملاقة من قارات متعدّدة. فمن أميركا اللاتينية تحضر سفن من المكسيك وتشيلي والأرجنتين، ومن أوروبا تأتي سفن من البرتغال وإسبانيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا. كما تشارك روسيا وبولندا بانتظام، وتبرز مشاركة آسيوية لافتة من اليابان وأندونيسيا.
تعدّ دول أميركا اللاتينية الأكثر حضوراً من حيث العدد، إذ تحرص على إرسال سفنها التدريبية الشراعية التي تمثّل رموزاً وطنية عائمة. بهذا المعنى، يصبح المهرجان ملتقى دبلوماسياً بحرياً، تتقاطع فيه أعلام الدول وثقافاتها على صفحة مياه أمستردام.
مسارات الوصول إلى أمستردام
تنطلق السفن المشاركة في رحلات بحرية طويلة، تستمر أسابيع أو أشهر، وتعبر المحيط الأطلسي أو البحر المتوسط نحو السواحل الأوروبية. يرسو بعضها أولاً في موانئ كبرى مثل روتردام، هامبورغ أو لشبونة، قبل أن يتجه شمالاً عبر بحر الشمال. من هناك، تتجمّع السفن قبالة الساحل الهولندي، لتدخل تباعاً عبر قناة بحر الشمال عند “آيماودن”.
في لحظة الافتتاح، تُبحر مئات السفن في موكب احتفالي مهيب يُعرف بـ”الإبحار الاحتفالي”، تصطف خلاله مئات القوارب الصغيرة على جانبي المسار، لمرافقتها حتى تصل إلى قلب المدينة.
حظي مهرجان الإبحار 2025 بتغطية واسعة في الصحافة الهولندية، وكتبت صحيفة “دي فولكس كرانت” قائلة: “إن المهرجان يرتبط بوقتنا أكثر من أي وقت مضى”.
وأشارت صحيفة “هت بارول” إلى جمال السفن المشاركة تحت عنوان: “هناك 11 سفينة لا ينبغي أن تفوّت رؤيتها”.
أما صحيفة “ألخمين داخ بلاد”، فوصفت المهرجان بأنه “أكبر حدث فرجوي مجاني في هولندا”. بينما حذّرت “دي تيليغراف” من الازدحام قائلة: “كل من يرغب بدخول أمستردام، عليه أن يتوقع تأخيراً شديداً”، وذلك بسبب إغلاق العديد من الطرق والقنوات المائية، واحتشاد 2 مليون زائر ومواطن هولندي في أجواء احتفالية صاخبة.
كما خصّ التلفزيون الهولندي الرسمي، تغطيات مباشرة للسفن العملاقة عند دخولها القناة البحرية، مرفقة ببرامج وثائقية عن تاريخ أمستردام البحري، ودور قنواتها في صياغة الهوية الوطنية.
نشأة مدينة مائية
ارتبط تأسيس أمستردام، بالفكرة الجوهرية التي تقوم عليها هولندا ذاتها، والمعبّر عنها في المثل الشهير: “الله خلق الأرض، ونحن خلقنا هولندا”.
فالهولنديون الأوائل، أقاموا في أواخر القرن الثاني عشر، عند مصب نهر “الأمستل”، سدّاً خشبياً للتحكّم في المياه ومواجهة الفيضانات، ومن هذا السدّ جاء اسم المدينة (سدّ الأمستل). كان التأسيس إذاً مواجهة مباشرة مع الماء، حيث حوّل السكان الخطر إلى حياة، والهشاشة إلى عمران متماسك.
لعبت القنوات دوراً محورياً في حماية المدينة، وتنظيم الحياة الحضرية وفتح المجال للتجارة والنقل، ما أسس لهوية حضرية قائمة على الماء، سرعان ما جعلت أمستردام ميناء عالمياً، ومركزاً للتجارة الأوروبية.
القنوات الدفاعية
تمشقّ قناة “السنكل” في القرن الخامس عشر، كخندق دفاعي يطوّق المدينة، لحمايتها من الغزوات وضبط تدفّق المياه. غير أنّ هذا الخندق تحوّل تدريجياً إلى محور تجاري لعب دوراً أساسياً في النشاط الاقتصادي.
أما النواة الأقدم للمدينة، فتجسدت في حي “دي فالين- حي البحارة، يسمّى راهناً الشارع الأحمر” منذ القرن الرابع عشر، حيث حفرت خنادق دفاعية، ما لبثت أن تحوّلت إلى قنوات تجارية، فارتبط الحي بالبحّارة وخدمات الملاحة والتجارة، ما أظهر تداخل الدفاع بالاقتصاد والعمران في بنية المدينة، وهو ما يشتهر به الهولنديون.
الحزام الذهبي: قنوات القرن السابع عشر
بلغت أمستردام ذروة إنجازها المائي في القرن السابع عشر، بمشروع الحزام الذهبي، المؤلف من 3 قنوات رئيسة هي: قناة “السادة”، قناة “الإمبراطور”، وقناة “الأمير”.
لم تكن هذه القنوات للنقل فحسب، بل مثّلت مشروعاً عمرانياً ضخماً صُمّم بتخطيط هندسي شعاعي متدرّج، يقوم على شبكة من القنوات والشوارع الدائرية، تنطلق من مركز المدينة وتتوسّع تدريجياً نحو الخارج.
منح هذا التخطيط أمستردام مزيجاً فريداً من التحصين العسكري، وحركة التجارة والعمران المنظم. لتصبح مدينة عالمية، وهي من إحدى أعاجيب أوروبا العمرانية.
قناة بحر الشمال: شريان القرن التاسع عشر
مع حلول القرن التاسع عشر، تراجعت أهمية ميناء أمستردام، بسبب انسداد مصب نهر”هت آي”، وصعوبة دخول السفن الكبيرة. من هنا جاءت فكرة إنشاء قناة بحر الشمال (1865–1876)، التي ربطت المدينة مباشرة بالمحيط الأطلسي.
حفر آلاف من العمّال الهولنديين القناة بجهدٍ شاق، معتمدين على المعاول والمجارف اليدوية، إضافةًإلى الاستعانة بالآلات البخارية الحديثة والمضخّات لضبط المياه وتسريع الحفر. امتدت القناة عبر أراضٍ مستصلحة من البحر، وتوّجت ببناء سدود وبوابات ضخمة عند “آيماودن”. وهكذا استعادت أمستردام موقعها كميناء عالمي قادر على استقبال السفن الضخمة.
مدينة الجسور والقنوات
تحتضن أمستردام اليوم شبكة مائية تمتدّ لأكثر من 100 كيلومتر من القنوات، ونحو 1200–1281 جسراً، ما يجعلها واحدة من أبرز المدن المائية في العالم. وإذا ما قورنت بمدينة البندقية الإيطالية، فإن أمستردام تتفوّق في عدد الجسور وطول القنوات، فيما تتميّز البندقية بفرادة تاريخية وحضارية مركّزة. كلا المدينتين تعكسان الدور الحضاري العالمي للمدن المائية في أوروبا.
تتجلّى صورة أمستردام كـ”مدينة معجزات” في كونها قائمة فوق ملايين الركائز المثبّتة في التربة الهشّة. بعض هذه الركائز خشبي، ما زال ثابتاً تحت الماء منذ قرون، وبعضها حديث من الإسمنت والحديد.
يستند القصر الملكي في ساحة “الدام” مثلاً إلى 13,659 ركيزة، والمحطة المركزية إلى 8,687 ركيزة. تجسّد هذه الأرقام عبقرية الهندسة الهولندية في تحويل المستحيل إلى واقع حضري مستقر.
معجزة الماء والهوية
ليست أمستردام مدينة قنوات وجسور فحسب، بل هي مرآة لمعجزة هندسية وحضارية نشأت من صراع مع الماء. فمن سدّ “الأمستل” في القرن الثاني عشر، إلى القنوات الدفاعية والحزام الذهبي، إلى قناة بحر الشمال في القرن التاسع عشر، وصولاً إلى مهرجان الإبحار المعاصر 2025، ظلّت المدينة شاهداً على فلسفة هولندا: تحويل البحر من تهديد إلى مصدر للحياة. حيث تعد أمستردام رمزاً لمعجزة الإنسان في مواجهة الطبيعة.