اخبار تركيا

تناول تقرير بصحيفة يني شفق التركية للكاتب والخبيرنيدرت إيرسانال، تحليلا لمشهد التحول الجيوسياسي العالمي في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، مسلطًا الضوء على تراجع الدور الأوروبي وتحوّل أوروبا إلى مجرد تابع للولايات المتحدة، خصوصًا بعد عودة ترامب إلى الواجهة.

يكشف الكاتب عن تقارب أمريكيروسي محتمل يعيد رسم خريطة النفوذ العالمي، مقابل مشهد كييفي مأساوي يحاول فيه زيلينسكي تبرير الهزيمة وتجميلها. ويتوسع في رصد تحركات دولية متزامنة، مثل تنامي العلاقات الصينيةالهندية، والتقارب الباكستانيالبريطاني.

يؤكد الكاتب التركي أن أوروبا لم تعد في موقع الفاعل، بل باتت تبحث عن ضمانات أمنية في نظام عالمي جديد تقوده واشنطن، وترسمه موسكو، وتراقبه أنقرة بحذر. وفيما يلي نص التقرير:

ها هي الصورة جلية أمام أعيننا..

ثمة مشهدان متقابلان؛ الأول بين الولايات المتحدة وروسيا، والثاني بين الولايات المتحدة وأوروبا.

لقد رأينا بوضوح المشهد الداخلي للغرب قبل يومين؛ حيث اصطفوا جميعًا في البيت الأبيض كالحملان، يصفّقون على مضض لكل ما يمليه “الرئيس”.

حتى أن أحدهم لم يتمالك نفسه وصرخ قائلا: “ما لم يُنجز في ثلاث سنوات من أجل السلام في أوكرانيا، أُنجز في أسبوعين”.

لقد تراجعت مطالبهم إلى حدٍّ بائس، لدرجة أن آخر صيغة لها أصبحت: “حسناً، دعونا ننعم بالسلام، لكن ليبدأ الأمر بوقفٍ لإطلاق النار”.

هذه الصورة المأساوية تظهر كيف عادت بريطانيا وألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي وأعضاء آخرون إلى “الصف” بعد انتخاب ترامب. ليس لأنهم خرجوا سابقاً عنه، بل لأنهم كانوا يتبعون خطا أمريكيا مختلفا، أما الآن فقد ارتدوا الزي الذي يعجب ترامب، تماماً كما فعل زيلينسكي.

وأما كييف، فبات همّها كيف تزيّن هزيمةً عسكريةً فادحة لتسوّقها أمام الرأي العام المحلي والعالمي، فيما ينشغل زيلينسكي بالبحث عن الشريط اللامع الذي يزيّن به كرسيّه، عسى أن يحافظ على بقائه فوقه.

هذه هي الحقائق، بعد سنوات من الحرب ومئات الآلاف من القتلى، سوف يرغمون على قبول “السلام”.

ولم يبقَ للدول الأوروبية التي تتشدّق بالديمقراطية والحقوق والحريات، وتزعم أنها حاملة مشعل الخير في العالم، سوى أن تذرف دموع التماسيح مرة كل عام، في يوم توقيع السلام، أمام النصب التذكاري الجديد لـ”الجندي المجهول”.

ما ينبغي أن يُستحضر في الذهن ليكون درسًا للمرة الخمسين، هو تلك اللقطة بالأبيض والأسود التي جمعت ترامب وزيلينسكي في المكتب البيضاوي، وهما يقفان أمام خريطة لأوكرانيا، أو بالأحرى نصف أوكرانيا.

أما بقية التفاصيل، فهي لمن يستهويهم متابعة الأحداث الجارية، ويظن أن نشرات الأخبار والبرامج الحوارية على الشاشات قادرة على تفسير العالم. لكن تلك المرحلة قد طُويت، وأُسدِل الستار على فصلها (انظر: “قمة ألاسكا.. دعوة روسيا لمواجهة الصين”، 16/08).

وخلاصة القول، أو “ملخّص الفصل المطوي”، هو أن أوكرانيا هُزمت، وأنّ أوروبا والناتو والاتحاد الأوروبي و”أمريكا القديمة” قد خسروا. لا ينبغي أن يكون ذلك صادمًا؛ فقد كان واضحًا أن الأمور ستؤول إلى ذلك. فهل انتصرت روسيا؟ إقليمياً، نعم.

من هنا تبدأ الصورة الثانية: المحاذاة بين الولايات المتحدة وروسيا، وبين ترامب وبوتين. والأمر لا يقتصر على أوكرانيا أو أوروبا وحدهما.

حين يُوقع السلام بين روسيا وأوكرانيا، استحضروا في أذهانكم حدود “الغرب” الجديد الممتدة من روسيا إلى أرمينيا، فباكستان، وصولاً إلى الخليج.

والآن ضعوا هذا السلام فوق الخريطة التي كشف السفير باراك تفاصيلها اسمًا اسمًا، ومن ثم انظروا في احتمالية أن تُضاف روسيا إليها، وأن يُفتح الباب شرقًا نحو “آخر الحدود” إلى صراعات جديدة حول تقاسم النفوذ والتوسع.

هذا هو المشهد كاملاً.

ولنُضف مثالاً حيّاً أو اثنين:

بريطانيا وباكستان مثلا.. حين كان ترامب يُجلس “حلفاء أوكرانيا” على مقاعد مواجهة مكتبه البيضاوي في صورة بالغة الرمزية والتاريخية كان وزير الخارجية الباكستاني إسحاق دار يصافح وزير شؤون الشرق الأوسط وأفريقيا، البريطاني هاميش فالكنر. وقد سارعت وزارة الخارجية البريطانية إلى نشر تلك الصورة على حساباتها الرسمية في وسائل التواصل الاجتماعي لتعرضها للعالم.

ومن أبرز التطورات المتزامنة أيضًا، تقارب الصين والهند. ففي التوقيت نفسه، كان وزير الخارجية الصيني وانغ يي في العاصمة نيودلهي، حيث صافح نظيره وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكار، متعهدًا بتعزيز الأمن والتعاون بين البلدين. كما أشادت الهند بشراكة الصين في البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، وأعلنت دعمها للمكانة البارزة التي تتمتع بها بكين في هذه المنظمات، مؤكدة أن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين…

والعلاقات بين الهند وإسرائيل تسير على المنوال ذاته؛ حيث يواصل رئيسا الوزراء، نتنياهو ومودي، تبادل التهاني عبر حساباتهما على وسائل التواصل الاجتماعي. فقد هنأ نتنياهو الهند بعيد استقلالها، ورد مودي بالشكر، قائلاً: “العلاقات الهندية الإسرائيلية تزداد قوة”.

هذه الساحات ليست ميادين للتنافس بين الشرق والغرب فحسب، بل هي أيضًا مسارح لمنافسات الغرب في ما بينه أيضاً.

أوروبا على وشك أن تفقد حتى موقعها كمرشّح للعب دور لاعب عالمي. تبدو في صورة واهنة ومهزومة، تواجه أكبر مخاوفها بقدرٍ من اللامبالاة، وهي تجلس في نصف دائرة أمام ترامب، غير مكترثة بكيفية انعكاس هذا المشهد على التصور العالمي.

وأحد معاني السلام في أوكرانيا بالنسبة لأوروبا أيضًا هو احتمال البقاء وجهًا لوجه مع روسيا، بل إنهم في ظل عجزهم وعدم قدرتهم على تحقيق التوازن، لا يجدون أمامهم سوى البحث عن “ضمانات أمنية” يمكن أن تكون مظلة تحميهم، تمامًا كما تحمي أوكرانيا. فالناتو ليس حلًّا، وإنشاء قوة عسكرية بديلة يتطلب وقتًا طويلًا وتريليونات من اليوروهات.

كيف على تركيا أن تتعامل أوروبا؟ وكيف يمكنها أن توظف هذا الواقع لصالحها؟

لندع هذا السؤال هنا في سياق بحثٍ ثانوي عن الأجوبة، فالجميع الآن يحاول استيعاب دور تركيا داخل ما يُسمّى بـ “نظام ألاسكا” الجديد، وكأن هذا النظام وُلد بمعزل عن المسار المتدرّج للأحداث منذ سنوات. حسنٌ، ولكن هذا في الحقيقة جزء مما تجاوزناه سابقا. فأن تعجز عن فهم ما مضى من وقائع، وأن تعجز عن توصيف الازدواجية الغربية وصفًا دقيقًا، ثم تظن أنّ بإمكانك استشراف الدور المستقبلي لأنقرة، فذلك ضرب من الغرور، إذ لم يُنجَز العمل التمهيدي بعد، حتى يتسنى فهم ما بعده. كيف لك أن تُدرك ما سيأتي وأنت لم تستوعب ما قد انقضى؟

ومع ذلك، لنُعطِ الأمر فرصةً أخرى: فحتى لو أتاح التقارب الأمريكي الروسي مساحة لخطط غربية تمتد من آسيا الوسطى حتى الصين، فهل ستنخرط موسكو حقاً في مثل هذا المخطّط؟ وهل ستقبل بلعب دور يُترجم عملياً في خانة “الاصطفاف ضد الصين”؟ أهذا ما يُراد الإيحاء به مثلاً عبر ارتداء لافروف قميصاً يحمل شعار “الاتحاد السوفيتي”؟

وهل يمكن أن تشهد العلاقات التركية الروسية توترات في القوقاز أو الجمهوريات التركية، ابتداءً من باكستان وأذربيجان وأفغانستان وأرمينيا؟ نعم، ذلك ممكن، لكن هل سيكون التوتر ضد تركيا مباشرة؟

قد نشعر بذلك أو يُراد لنا أن نشعر، لكن ماذا لو كانت روسيا تتحرك باعتبارها طرفاً في صراع “الغرب مع الغرب” ذاته؟ خذوا مثلاً باكستان: من اللاعب الرئيسي هناك، بريطانيا أم الولايات المتحدة؟ وفي الهند من هو الفاعل الأكبر؟ إذا كانت الإجابة هي بريطانيا، فقد تطور روسيا موقفاً يضع تركيا في الجانب المقابل أيضاً، ولكن هل سيكون هذا مواجهة مباشرة بين موسكو وأنقرة؟ أم تحالفاً ضمنياً؟ وماذا لو كان الأمر في أذربيجان؟ من المؤثر هناك؟

سنناقش هذه الأمور باستفاضة، ولكن على الأقل نستلهم الدروس من التجربة الأوروبية ونوظفها في توصيف اللوحة الكبرى بكل ما فيها من ألوان.

شاركها.