اخبار تركيا
تناول تقرير للكاتب والبرلماني التركي السابق ياسين أقطاي، مفارقات الخطاب السياسي الأمريكي تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من خلال تحليل تصريحات السيناتور ليندسي غراهام التي تبرّر الجرائم الإسرائيلية في غزة وتقلّل من خطورتها بحجة أن إسرائيل لم تستخدم أقصى قوتها.
تتوقف الكاتب في تقريره بصحيفة يني شفق عند مشهد زيارة الوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير للأسير الفلسطيني مروان البرغوثي، مبرزًا البعد الرمزي لهذا الحدث في سياق الحرب على الرموز الفلسطينية.
ويشير إلى أن هذه المحاولات الإسرائيلية، سواء عبر التجويع أو التهديد أو حرق الرموز الدينية مثل منبر الأقصى، لا تُضعف روح المقاومة بل تُجذّرها وتوحد الفلسطينيين حول قضية الأسرى والقدس، مما يعكس فشل الاحتلال في كسر إرادة الشعب الفلسطيني.
وفيما يلي نص التقرير:
اعترض السيناتور الجمهوري الأمريكي الشهير، ليندسي غراهام، في خطاب ألقاه مؤخرًا، على اتهامات الإبادة الجماعية الموجهة لإسرائيل بمنطق مثير للاهتمام. فوفقًا له، لو أرادت إسرائيل حقًا ارتكاب إبادة جماعية لفعلت ذلك، فهي تمتلك التكنولوجيا والأسلحة والقدرة على ذلك. وبما أنها لم تفعل ذلك، دفعة واحدة، فهذا يعني أن نيتها وأفعالها لا ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
ما يعنيه غراهام، أو ما قد يقنعه بوقوع إبادة جماعية، هو إبادة جميع الفلسطينيين حتى لا يبقى منهم أحد. وبالطبع، فإن ربط الإبادة الجماعية بهذا الشرط لا يمكن اعتباره إلا أحد الامتيازات الاستثنائية الممنوحة لإسرائيل. وفقاً لهذا المنطق، يجب أن ننتظر حتى تبيد إسرائيل كل سكان غزة البالغ عددهم مليونين ما عدا فردًا واحدًا، حتى نتمكن من اتهامها بارتكاب إبادة جماعية.
وفي مقابل هذا الطرح، يؤكد غراهام أن نوايا وأفعال حركة حماس يجب تقييمها من حيث النتائج والمقاصد، ويصف هجوم السابع من أكتوبر بأنه “محاولة ارتكاب إبادة جماعية” دون أن تساوره أي شبهة أو تناقض داخلي. وعلى هذا الأساس، يرى أن على البشرية جمعاء أن تشكر إسرائيل لأنها ارتكبت مجازر أقل بكثير مما هي قادرة على فعله، بينما حماس تستحق جميع أنواع العقاب على ما أرادت فعله ولم تتمكن من إنجازه.
وحين يستولي منطق الاستثنائية والامتيازات على العقول، تخرج لنا مثل هذه التبريرات التي تثير الغضب. لكنها في الوقت ذاته مظهر من مظاهر الانهيار واستنزاف رأس المال الأخلاقي. فعندما تبلغ الغطرسة والوقاحة في ممارسة السيادة هذا الحد، تبدأ أيضًا في الإعلان عن سقوطها الوشيك. كما حدث مؤخراً عندما قام وزير الأمن الداخلي الصهيوني المتطرف الإرهابي إيتمار بن غفير، بزيارة رمز المقاومة الفلسطينية الأسير مروان البرغوثي في زنزانته، وهدده أمام الكاميرات.
يُعد مروان البرغوثي أحد القادة الكاريزميين في القضية الفلسطينية، وقد صاغ بخطابه المؤثر ونضاله الفعّال روايات القضية الفلسطينية. قضى سنوات شبابه المفعمة بالحيوية في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ولا يزال يُحتجز في أقسى الظروف. ولقد شكّلت مشاهد الوزير الصهيوني وهو يهدده أول ظهور له أمام الرأي العام منذ سنوات. إن الحاجة إلى عرض البرغوثي في مثل هذه الزيارة أو المشهد، بجسده الهزيل، تحمل دلالات أعمق بكثير.
غير أنّ برغوثي، حتى في هذا المشهد المسرحي، لم يُقدِّم الصورة التي أرادها الوزير الصهيوني ولا الجماهير الفاشية التي يخاطبها. بل على العكس، وكما ألقى يحيى السنوار في أنفاسه الأخيرة عصاه بيد واحدة متحدياً طائرات الاحتلال المسيّرة، لم يتردد البرغوثي، بجسده النحيل وبكل عفوية وطبيعية ووقار، في إذلال المحتلين. فرغم أن إدارة الدعاية الصهيونية نشرت صور السنوار الأخيرة بهدف إذلال المقاومة، إلا أن النتيجة كانت كارثية بالنسبة لهم، إذ تحوّل السنوار إلى رمز مقاومة عالمي يُحتذى به، وتستلهم منه الأجيال، وتنظر إليه بإعجاب.
وبينما تُظهر إسرائيل الصهيونية التي تمارس الإبادة الجماعية استثنائيتها، فإنها في الواقع تسير على طريق استنزاف كل رصيدها الرمزي. إذ يقف أمامها الفلسطيني الغزّي الصامد، الذي لا يلين أمام الاستبداد، ولا يقبل الاستسلام أمام وقاحة ادعاءاتها بالسيادة وكل أشكال الإهانة.
الغزاوي هو الكيان الذي كسر قواعد اللعبة كلّها أمام نزعة الدولة الحديثة في تجريد الإنسان من كلّ شيء حتى لا يبقى له سوى “الحياة المجردة” المعرّاة من الحماية، فيُترك ضحيةً عاجزة. فهو فاعل يفرض حضوره حتى حين يُراد له أن يُختزل إلى مجرد شيء. إنّ سياسة التجويع هي أقصى درجات هذه الرغبة في اقتلاع الذات من صاحبها، ومحاولة سحق الإرادة وإخماد جذوة المقاومة فيه.
ويثبت الغزاوي وجود ذات حقيقية لا يمكن تحويلها إلى “إنسان مستباح” من وجهة نظر الحكام (ضحية، ولكن بلا قدسية، مُجرد كائن بيولوجي فقط، وحياة مجردة). ومن المنطقي أن نتساءل لماذا شعرت إسرائيل بالحاجة إلى إظهار قوتها ضد البرغوثي، الذي هو مسجون أصلًا، محروم من حريته وجميع إمكانياته، وجسده يكاد يكون مجرد وجود بيولوجي بسبب التجويع الممنهج. وأي مشهد مَرضي هذا الذي يجد الشعب الصهيوني الإسرائيلي فيه متعة شاذة؟ إنه مشهد لا يُثير إلا الشعور بالبؤس العميق.
إن الهجوم الرمزي الذي نُظِّم ضد برغوثي في زنزانته قبل أيام من الذكرى الأليمة لحرق منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى في 21 أغسطس، ليس حدثاً عابراً أو مصادفة؛ بل يحمل رسالة سياسية عميقة.
البرغوثي ليس مجرد سجين؛ بل هو رمز لإرادة الفلسطينيين في المقاومة والصمود أمام الأسر. والمنبر المحروق، لم يكن قطعة خشب عادية؛ بل كان رمزًا ثقافيًا ودينيًا يرمز إلى القدس وهويتها الإسلامية. وهكذا، يمثل كل من البرغوثي والمنبر رموزًا موحدة تتجاوز دلالتها حدود فلسطين، لتصل إلى الأمة بأسرها.
لقد ظل الاحتلال لعقودٍ يسعى جاهداً لطمس هذه الرموز. وتتضح معالم سياسة متسقة تقوم على تقويض كل ما يعزز الهوية الوطنية والدينية للفلسطينيين، من استهداف الأماكن المقدسة إلى محاولات عزل القادة في السجون. ويأتي هذا الاعتداء على البرغوتي كحلقة في هذه السلسلة المتواصلة، مؤكداً مرة أخرى أن صراع الفلسطينيين مع الاحتلال لا يقتصر على الأرض فحسب، بل يشمل أيضًا الذاكرة والرموز والمعاني.
ولكن ما أرادت إسرائيل تحقيقه كضربة معنوية، يتحوّل إلى فرصة لتجديد دعم الشعوب. فذكرى حرق منبر المسجد الأقصى تذكر العالم بجرائم الاحتلال بحق المقدسات، بينما يسلط الاعتداء على البرغوثي الضوء مجددا على قضية الأسرى، التي تمثل إحدى الركائز الأساسية للنضال الفلسطيني. إن تزامن هذين الحدثين يخلق خطابًا موحدًا يربط القدس وكل فلسطين بالأسرى، ويرسل رسالة واضحة مفادها: مهما استهدفوا رموزنا، فإنها ستظل وقودًا يُبقي جذوة المقاومة متقدة.
ورغم انتماء البرغوثي لحركة فتح، فإنه كقائد وطني احتل دوماً الصدارة في قوائم الأسرى الذين طالبت حماس بمبادلتهم خلال المعارك الشديدة التي تخوضها على أرض فلسطين. فبعض خلافات الرأي بينهما لا تبعدهم عن القضية المشتركة، ولا تبرر بأي حال التخلي عن الأسرى؛ وهذا ما تدركه حماس جيداً، وقد أظهرت التزامها به منذ البداية.
إن وحدة الدم الفلسطيني والمصير المشترك لا يمكن تجزئتها. فعدم دعم البعض للحقيقة لا يعني هزيمتها. بل على العكس، كما منّ الله بالنصر على عباده في أفغانستان وبنغلاديش وسوريا، فإن النصر في فلسطين قريب، وسينتصر المسلمون على الصهاينة حتما، فهذا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد.