اخبار تركيا
استعرض الكاتب والمحلل السياسي التركي يحيى بستان، في تقرير بصحيفة يني شفق المحلية، أبعادًا استراتيجية للصراع في سوريا، مستندًا إلى وثيقة إسرائيلية تعود لعام 1982 تُعرف باسم “خطة أوديد ينون”، والتي دعت لتفكيك الدول المحيطة بإسرائيل، وفي مقدمتها سوريا.
ويشير الكاتب إلى أن ما يجري حاليًا على الأرض السورية من تحركات “قسد”، والمطالب الدرزية، والتقارب الأميركي الإسرائيلي، والتوترات في الجنوب السوري يعكس خطوات عملية باتجاه تنفيذ تلك الرؤية التقسيمية.
كما يناقش موقف تركيا من هذه التطورات ضمن إطار مشروع “تركيا خالية من الإرهاب”، محذرًا من أن استمرار التعاون بين قسد وإسرائيل يشكّل تهديدًا لهذا المسار، ويعيد خلط الأوراق في الصراع الإقليمي والدولي حول سوريا.
وفيما يلي نص التقرير:
سأجيب عن السؤال الوارد في العنوان (هل خرجت “قسد” عن مسار “تركيا خالية من الإرهاب”؟)، لكن قبل ذلك لا بد أن أشرح أسباب ما يجري في سوريا، مستعينًا بـ “وثيقة استراتيجية” قديمة نُشرت سنة 1982، لكن آثارها لا تزال مستمرة حتى اليوم.
كان أوديد ينون مسؤولًا في وزارة الخارجية الإسرائيلية. وفي مجلة “كيفونيم”، كتب عن التهديدات الإقليمية المحيطة بإسرائيل والخطوات التي يجب على تل أبيب اتخاذها. وقد عُرف النص في الأدبيات السياسية باسم “خطة أوديد ينون”، وكانت أطروحته الأساسية تقول: «إن أمن إسرائيل مرهون بضعف الدول المجاورة».
وتضمنت الخطة مقترحات لتقسيم العراق (إلى جنوب شيعي، ووسط سني، وشمال كردي)، وكذلك لبنان ومصر. ولكن ما يعنينا هنا هو الشق المتعلق بسورية، لما له من إسقاطات مباشرة على التطورات الراهنة.
المرحلة الأولى من ممر داود
وتنص خطة ينون على أن سوريا ينبغي أن تُقسَّم إلى أربع دويلات: دولة علوية على ساحل البحر المتوسط، ودولة سنية تتمركز في دمشق، ودولة درزية في السويداء، ودولة كردية في الشمال. وسبق أن كتبنا أن سياسة إسرائيل الحالية تسعى إلى تقسيم سوريا إلى أربع مناطق نفوذ، بل إنهم عرضوا هذا المقترح حتى على موسكو. فهم يتصرفون كأوصياء على الدروز، ولا يسمحون للجيش السوري بالدخول إلى المنطقة. فهل يتطابق هذا مع الخطة؟ نعم، إنه يتطابق.
لقد تحدّثنا سابقًا عن وجود مشروع “ممر داوود” الإسرائيلي، الذي تعد “قسد” شريكاً فيه. إذ إنها بتنصّلها من اتفاق العاشر من مارس ترسل إشارات إيجابية واضحة إلى إسرائيل، وتبدو كأنها تسعى للاضطلاع بدور المقاول الذي يتولى شقّ الممر الممتد من الجولان مرورًا بالسويداء وصولًا إلى دير الزور. وفي هذا السياق، التقى السفير الأمريكي باراك بالزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل الشيخ موفق طريف، الذي طالب بإنشاء “ممر بري آمن من الجولان إلى السويداء تحت إشراف أمريكي”. وهذه في الحقيقة، المرحلة الأولى لمشروع “ممر داوود”. ومن هنا تبرز ضرورة أن يستعيد الجيش السوري دير الزور من سيطرة “قسد” بأسرع ما يمكن.
تطورات ميدانية ساخنة
شهدت الساحة السورية في الأيام القليلة الماضية تطورات مهمة، فقد وسعت “قسد” خطابها اللامركزي ليشمل الجماعات الدرزية والعلوية (مؤتمر الحسكة). ومن ناحية أخرى، تستمر المحادثات بين دمشق و”قسد”. وتسعى روسيا للعودة إلى سوريا. ووقعت أنقرة ودمشق اتفاقية تدريب واستشارات عسكرية، تمهيدًا لاتفاق أكبر قادم. ووفقًا لزميلي راغب صويلو، حذرت الولايات المتحدة من أنها لن تحمي “قسد” في أي عملية محتملة. وتستعد برلين لاستضافة “المؤتمر الكردي اليهودي” في سبتمبر.
وتجدر الإشارة إلى أن عشيرة البكارة العربية في سوريا أعلنت التعبئة العامة ضد قسد. كما أن الدروز في السويداء نظموا مظاهرة للمطالبة بحق الأقلية الدرزية في تقرير مصيرها. والأخطر من ذلك كله أن مستوطنين إسرائيليين أقاموا مراسم رمزية ووضعوا حجر أساس لمستوطنة جديدة في درعا السورية.
أيهما أكثر ضررًا؟
منحت أنقرة قوات قسد فرصة للاندماج في مؤسسات الدولة السورية لإلقاء السلاح والاندماج مع دمشق ، لكنها ترى ما آلت إليه النتائج. وقد جاءت تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، عقب لقائه نظيره السوري الشيباني، لتؤكد هذه الحقيقة؛ إذ شدّد على أنّ “قسد لا تبدي أي اهتمام لا بالتفاهم مع دمشق ولا بمسار تركيا خالية من الإرهاب”، متسائلًا بلهجة حادة: “ما شأنكم بهذا؟ أأنتم أدوات في يد إسرائيل؟؟”
وردًا على ذلك، صدرت تصريحات من حزب “DEM”. وقالت المتحدثة عائشة غول دوغان: “وزير الخارجية لا يستخدم لغة مناسبة للعملية.” وهناك من يحاول منذ فترة استبعاد قسد عن مسار “تركيا خالية من الإرهاب”، وقد صدرت تصريحات من قسد بهذا الاتجاه أيضًا. وتحليل جنكيز جاندار، القيادي في حزب “DEM”، والذي يمكن تلخيصه بـ”العملية العسكرية ضد قسد ستنهي المسار”، كان بمثابة شرارة تحذير.
إن رهن مشروع بحجم “تركيا خالية من الإرهاب” يهدف إلى تحقيق السلام والأمن في البلاد والمنطقة، وضمان حياة الناس واستقرارهم، بوجود تشكيل مسلح مثل “قسد”، لن يحقق مكاسب لأحد، بل على العكس؛ سيكون ذلك عاملًا مهددًا للمسار برمّته. ومن حيث النتائج، لا يختلف هذا الأمر كثيرًا عن التضليل الذي قام به أحد نواب حزب الجيد أمام اللجنة البرلمانية.
الأهداف المتعددة للعملية
سبق أن أشرنا إلى أن هذا المسار يهدف إلى تجريد جميع امتدادت تنظيم “بي كي كي” الإرهابي من السلاح، سواء في تركيا أو العراق أو إيران أو سوريا. وقد لا تكون خطوات نزع السلاح متزامنة، لكن التوقعات من جميع الأطراف واحدة. فالمسار لا يستهدف فقط إنهاء الإرهاب داخل تركيا وتعزيز الوحدة الوطنية، بل يسعى أيضًا لدعم الاستقرار الإقليمي، ويهدف إلى القضاء على المجموعات الوكيلة ووضع حد للحروب بالوكالة، وسحب أدوات النفوذ من أيدي القوى الإمبريالية والجهات التي تنفث السم في المنطقة (قد تكون هذه الأداة أحيانًا القسد، وأحيانًا داعش). الهدف الأسمى هو جلب السلام لأبناء المنطقة، وحماية حدود تركيا. إن الردع التركي موجه ضد جميع الأطراف التي قد تُزعزع السلام، سواء كانت قسد، أو داعش، أو فلول النظام الساقط. وفوق كل ذلك، هذه سياسة دولة. وكل خطوة تُتخذ في هذا المسار تتم بالتنسيق بين مؤسسات الدولة المعنية.
والخلاصة: إنّ أي خطوة تُتخذ في غياب معالجة جذرية لمخاوف تركيا الأمنية محكوم عليها بالفشل. فـ “تركيا خالية من الإرهاب” هي رؤية استراتيجية لسلام داخلي وإقليمي، ومبادرة أخوّة تستدعي قدرًا عاليًا من الحكمة والتعقّل من جميع الأطراف، ولا سيّما في الملف السوري.