بعض المخرجين لا تكفي مشاهدة أفلامهم مرة واحدة، الأفلام التي يصنعونها لا تمنح نفسها للمشاهد بسهولة، ليس بالضرورة لأنها صعبة، ولكن لأنها كثيفة الدلالات ومكثفة التعبير، من هؤلاء بالتأكيد المخرج الأميركي ويس أندرسون، صاحب الأسلوب البصري المميز والبناء السردي غير التقليدي والأحداث السوريالية والأداء التمثيلي المصطنع، وفوق ذلك الدراما غير النمطية وغير المباشرة التي تتطلب من المشاهد بذل الجهد لكي يعثر على معنى أو منطق للأشياء.
الفرع العربي لأندرسون
في فيلمه الأخير The Phoenician Scheme (المخطط الفينيقي) على سبيل المثال، كان عليَ أن أنتظر حتى العناوين الأخيرة لكي أعثر على ما أعتقد أنه مفتاح الفيلم.. أو على الأقل أحد المفاتيح التي تضيف لمعاني الفيلم.
مع نهاية الفيلم يظهر على الشاشة إهداء يقول: “إلى ذكرى فؤاد ميخائيل معلوف. الذي ولد في لبنان ومات في لندن. وظللت حياته أشجار الأرز”.
فؤاد معلوف هو والد زوجة أندرسون، جومان معلوف، وأمها هي الأديبة اللبنانية المعروفة حنان الشيخ.
وكأن الاسم يلقي بالضوء على كل شئ في الفيلم، بداية بعنوانه الذي يشير إلى “فينيقيا” (بلاد الشام القديمة) وحتى نهايته التي تدور في مصر، مروراً ببقية أماكن وأسماء وتفاصيل أخرى عديدة، بدأت في الاتضاح وإظهار نفسها مع المشاهدة الثانية والثالثة للفيلم.
لا تقتصر دلالة إهداء الفيلم إلى اسم فؤاد معلوف على الموقع الذي تدور فيه الأحداث (الشرق الأوسط)، أو الصراعات التي تدور فيه بين قوى الإمبريالية والرأسمالية العالمية، ولكنه يحمل أيضاً إشارة شخصية، عائلية، تحدث عنها أندرسون في أكثر من حوار عقب عرض الفيلم في المسابقة الرسمية للدورة الـ 78 من مهرجان كان السينمائي الدولي، في مايو الماضي.
في قلب الفيلم تدور قصة بسيطة جميلة عن العلاقة التي تربط رجل الأعمال جازا كوردا (بينيثيو ديل تورو) بابنته ليزل التي تؤدي دورها ميا ثريبلتون، ابنة النجمة كيت وينسلت، التي ورثت عنها موهبتها وحضورها الطاغي، هذه العلاقة التي يعتمد عليها الفيلم استلهمها أندرسون من علاقة فؤاد معلوف بابنته جومان، ومن علاقة أندرسون نفسه بابنته الوحيدة التي تبلغ من العمر 9 سنوات، وأيضاً من علاقة بطل الفيلم ديل تورو بابنته “كلنا لدينا بنات” كما يقول أندرسون، وعلاقة كوردا بابنته مزيج من كل هذه الخبرات، لكن علاقة كوردا بابنته ليست مجرد حكاية عن “أهمية العائلة”، كما تفعل أفلام “التنمية البشرية” الهوليوودية، ولكنها بالأساس حكاية عن الجانب الإنساني الجميل من العالم، الذي تمثله الأنثى الابنة البريئة القوية، في مواجهة هشاشة الآباء الذكور الذين يتصارعون ويتقاتلون، لا لشئ، كما يؤكد الفيلم، سوى لإثبات من الذي يستطيع أن يضرب الآخر.
مهنة كوردا وملامح كثيرة من شخصيته استلهمها أندرسون من شخصية فؤاد معلوف، الذي كان مهندساً هاجر مع زوجته حنان الشيخ عقب اندلاع الحرب الأهلية في لبنان منتصف السبعينيات، وقضى سنوات من حياته في السعودية، قبل أن ينتقل مع عائلته إلى لندن، كان شخصية حكيمة، ذكية، محبة للحياة، ومهيبة، وعلاقته بابنته كانت فريدة من نوعها، كما يقول أندرسون.
عالم من المؤامرات
يبدأ الفيلم بمحاولة اغتيال يتعرض لها جازا كوردا، نعلم أنها المحاولة السادسة، بجانب محاولات عدة أخرى يتعرض لها على مدار الفيلم، نحن في عام 1950، حيث يحلق كوردا بطائرته على ارتفاع 5000 قدم، وكوردا يطلق عليه “السيد 5%”، التي يعرضها دائماً في صفقاته، ويتكرر الرقم 5 بشكل مقصود في أكثر من موقع من الفيلم، بما يحمله من دلالات دينية ونفسية، تعزز معنى الرحلة الروحية التي يقوم بها كوردا.
تتآمر المخابرات الأميركية وحلفائها من رجال الأعمال الغربيين لإفشال مشروع كوردا الجديد المسمى بالمخطط الفينيقي، والذي يسعى من خلاله لتعمير وتحديث “فينيقيا الجديدة المستقلة العظمى”، عن طريق بناء سكك حديدية وأنفاق وجسور وقنوات وسدود، هذا المشروع الذي، مثل وجود كوردا نفسه، يهدد مصالحهم في المنطقة والعالم.
في الفيلم، وعقب محاولة الاغتيال، يستدعي كوردا ابنته التي تستعد لتصبح راهبة من الدير الذي تقيم فيه، ويخبرها بأنه اختارها كوريثة لكل أملاكه، ويطلب منها أن تصحبه في رحلة لتدبير رأس المال الكافي لمشروعه الفينيقي الكبير، حتى تساعده من ناحية، ولكي تكتسب الخبرة من ناحية ثانية.
يستعين كوردا بمعلم، متخصص في الحشرات، اسمه بيورن (مايكل سيرا) لتعليم ابنته بعض حقائق الحياة، يقع في حب الابنة، ولكن يتبين أنه جاسوس جندته المخابرات الأميركية لإفشال مشروعات كوردا، في أحد المشاهد يعترف بيورن لكوردا وليزل بأنه ليس جاسوساً محترفاً، وأنه بالفعل أستاذ جامعي متخصص في الحشرات، كما أنه رئيس جمعية ثقافية تصدر مجلة أدبية رفيعة، وساعدته الحكومة الأميركية في تمويل الجمعية والصحيفة مقابل أن يعمل جاسوساً لها (في إشارة إلى استخدام المخابرات الأميركية المثقفين والفنانين وأصحاب الجمعيات الثقافية).
خيال يكشف الواقع
ليس هناك أسماء دول أو مناطق بعينها في The Phoenician Scheme، إلا بشكل عام وتجريدي يتسق مع القالب الفانتازي للفيلم، خاصة أن طبيعته الكوميدية، بجانب الأماكن والألوان وأداء الممثلين، تجعل كل شئ يبدو خيالاً طفولياً بحتاً، مثلما هي الحال في أعمال أندرسون، العالم هنا يبدو خياليا أكثر ربما من عالم “سوبرمان” و”الرائعون الأربعة”، وحتى جازا كوردا يبدو خارقاً للطبيعة وقادراً على تحدي قوانينها مثل أبطال الكوميكس.
تشير مواقع التصوير إلى أماكن (غير محددة)، إذ يبدأ الفيلم بزيارة إلى مملكة شرق أوسطية، هناك صحراء وشمس ناصعة الصفار وقطاع طرق على جمال وقطار قديم يشق الصحراء، وصور مأخوذة من مصر والأردن منتصف القرن الماضي. الأسماء تؤكد ذلك: الملك حسين والأمير فاروق! وعلى عكس ما تفعله هوليوود عادة، فإن الغربيين يصورون كرأسماليين جشعين أشرار، فيما يصور الأمير فاروق (بأداء ريز أحمد) كشاب وسيم رشيق ينجح في النهاية في هزيمة رجلي الأعمال الأوربيين (أداء توم هانكس وبرايان كرانستون) في لعبتهم المفضلة، كرة السلة، رغم أنه لم يلعبها في حياته من قبل.
من الصحراء والإنجليز ينتقل المشهد التالي إلى ما يبدو أنه لبنان، حيث يسيطر رجل أعمال آخر يتحدث الفرنسية (بأداء ماتيو أمارليك)، يرتدي طربوشاً تركياً أحمر ويقيم في ملهى ليلي فخيم، قبل أن يظهر ثائر إفريقي يقود مجموعة مسلحة من الشيوعيين (ينقذ كوردا من الموت لاحقاً ويساعده).
ينتقل كوردا بعد ذلك إلى منطقة أخرى يبدو أنها تشير إلى فلسطين، حيث تقيم ابنة عمه هيلدا (ذلك الاسم اليهودي المميز)، تؤدي الدور سكارليت جوهانسون، في ما يشبه الـ “كيبوتز”، وتحلم ببناء مدينة مثالية فاضلة.
رحلة روحية
ما يحاول أن يفعله كوردا هو إقناع كل هؤلاء بالمساهمة في مشروعه الحداثي الذي يوفر، كما تعلمه ابنته، إعطاء العامل أجره المستحق، وإطعام الجياع، وتشير الرؤى الآخروية (من الآخرة) التي تنتابه كل حين، إذ يموت ويصعد إلى السماء ويتحدث إلى الرب والملائكة، أنه في رحلة شبه روحية، بالرغم من كونه ملحداً، وفي نهاية المطاف تتحول رحلة البيزنس للبحث عن تمويل إلى رحلة نفسية روحية لكوردا.
يذهب كوردا إلى أخيه نوبار (بيندكت كامبرباتش) لإقناعه بالمشاركة في المشروع، ولكن يتبين أن هذا الأخ هو المسؤول عن كل محاولات اغتيال كوردا، وأنه الذي قتل زوجة كوردا الثالثة، والدة ليزل، وأن الكراهية غير المبررة (مجرد إثبات من يستطيع هزيمة من) هي الشئ الوحيد الذي لا يمكن إصلاحه في بني البشر.
في المشاهد قبل الختامية يشير كل شئ إلى أننا في مصر، يجتمع كل المستثمرين في المشروع الفينيقي في “فندق واحة الصحراء”، المصمم على الطريقة الفرعونية، ويشير كوردو إلى أن المستثمرين الأوروبيين الذين اشتروا الفندق قاموا بطلاء الحوائط برسوم وتصميمات ساذجة وألوان ذهبية مبتذلة. يعرض كوردا مشروعه الذي نرى نموذجاً مصغراً (ماكيت) له يستوحي شكل معبد حتشبسوت الشهير، ولكنه يتعرض لمحاولة اغتيال أخيرة من قبل أخيه نوبار، تنتهي بموت الأخير وتدمير الماكيت والمشروع.
في النهاية يفشل كوردا في تحقيق مشروعه، ولكن يعثر على نفسه من خلال مشروع مطعم صغير يديره مع ابنته.
يرفض أندرسون الصراعات الكبيرة التي دمرت الجميع، ويمجد البساطة والحياة الهادئة، في ظل الابنة الأنثى البريئة المحبة لكل البشر والكائنات.
نهاية رومانسية متفائلة تختلف كثيراً عن نهايات ورؤية أندرسون في أفلامه السابقة، ربما يحتاجها المشاهد الآن أكثر من أي وقت مضى.
* ناقد فني