بدأ استخدام مصطلح “الاستدامة” في الأدبيات الدولية منذ ثمانينيات القرن العشرين، حيث استُخدم في بادئ الأمر للإشارة إلى الاستدامة البشرية على كوكب الأرض، وهو المفهوم الذي مهد الطريق أمام التعريف الأبرز والأكثر تداولاً لمصطلحي “الاستدامة” و”التنمية المستدامة”. وقد جاء هذا التعريف في تقرير مفوضية الأمم المتحدة للبيئة والتنمية الصادر بتاريخ 20 مارس 1987 “تقرير بروتلاند”.
وقد تبلور هذا المفهوم في القانون الدولي تدريجيًا من خلال عدد من الاتفاقيات الدولية، أبرزها إعلان ريو بشأن البيئة والتنمية (1992)، الذي وضع الأسس القانونية لمبادئ مثل “الاحتياط”، و”الملوث يدفع”، و”العدالة بين الأجيال”، باعتبارها التزامات دولية ذات طابع توجيهي للدول في سياساتها التنموية.
ويُعد اتفاق باريس بشأن تغير المناخ لعام 2015 نموذجًا معاصرًا للآليات القانونية الدولية الملزمة، حيث ألزم الدول الأطراف باتخاذ تدابير فعالة للتخفيف من الانبعاثات الكربونية، وتعزيز التكيف البيئي، وذلك ضمن إطار قانوني دولي قائم على مبدأ “الإنصاف المناخي” ومراعاة خصوصيات الدول النامية.
كما تمثل أجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030 خارطة طريق قانونية وأخلاقية ذات طابع شبه ملزم، تضم 17 هدفًا و169 غاية، تدعو الدول إلى مواءمة تشريعاتها الداخلية وسياساتها الوطنية مع هذه الأهداف، بما يضمن احترام الحق في التنمية، وتحقيق العدالة البيئية والاجتماعية.
وقد أصبحت مواءمة التشريعات الوطنية مع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالتنمية وحقوق الإنسان، ضرورة تشريعية ومؤسسية لتحقيق التنمية المستدامة. وتُظهر معظم الدول التزامها من خلال إدراج الحق في التنمية ضمن دساتيرها الوطنية، وسنّ قوانين خاصة بحماية البيئة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتطوير أنظمة الحماية الصحية والاجتماعية.
وتُعد مملكة البحرين مثالًا واضحًا على السعي لتحقيق تنمية مستدامة متوازنة تتوافق مع الالتزامات الدولية والخصوصية الوطنية. فقد تبنت البحرين رؤية اقتصادية وطنية لعام 2030 تقوم على مبادئ العدالة، والتنافسية، والاستدامة، حيث ارتكزت رؤية صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، على التزام راسخ بالمسؤولية الدولية، وتحقيق التنمية المستدامة من خلال مبادرات وطنية واضحة المعالم. وتمثل مملكة البحرين نموذجًا إقليميًا متميزًا في مواءمة مسارات التنمية مع المعايير الدولية، مع الحفاظ على الهوية الوطنية والدستورية. ويبرز التوجه البحريني كنموذج إقليمي في تحقيق توازن بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وحماية البيئة، مع التزام واضح بتكامل الجهود مع الأطر الدولية، وذلك بتطبيق استراتيجية وطنية للتحول الرقمي والابتكار، شملت تطوير البنية التحتية الإلكترونية، والخدمات الحكومية الرقمية، بما يسهم في تقليل الأثر البيئي وزيادة كفاءة الخدمات، وتدشين مبادرات الطاقة المتجددة.
وفي خطوة رائدة على المستوى العالمي، جسّد مجلس النواب البحريني التزامه بتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030، عبر حصوله على الاعتماد الدولي لنظام الإدارة البيئية ISO 14001 كأول برلمان في العالم يُلقب بـ”البرلمان الأخضر”. ويأتي هذا الإنجاز انسجاماً مع الهدف الثالث عشر من أهداف التنمية المستدامة، الذي يُعنى بالعمل المناخي وحماية البيئة. وفي هذا الإطار، يواصل مجلس النواب تنفيذ خطط عملية تدعم التوجه نحو الاستدامة البيئية، من بينها التوسع في المسطحات الخضراء، والتحول إلى استخدام الطاقة النظيفة، وزيادة أعداد الأشجار البيئية داخل المجلس. كما ينظم المجلس أسبوع البرلمان الأخضر، ويعقد ورش عمل متخصصة حول الإدارة البيئية المستدامة، إلى جانب تنظيم معرض داخلي لعرض منتجات صديقة للبيئة.
وتتضمن المبادرات كذلك إطلاق حملة “نحو مجلس بلا ورق”، وإقامة يوم للتشجير في محيط المجلس، وتركيب أجهزة موفرة للطاقة والمياه، إضافة إلى تثبيت شاشات إلكترونية لعرض مؤشرات استهلاك الطاقة اليومية، بما يسهم في رفع الوعي البيئي داخل المؤسسة التشريعية، ويعكس التزامها العملي بتطبيق مفاهيم التنمية المستدامة.
وفي سياق مبدأ العدالة بين الأجيال وهو حجر الأساس للعديد من الاتفاقيات الدولية كإعلان ريو بشأن البيئة والتنمية (1992) الذي أكد على واجب الدول في حماية البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة. وبالرغم من أن الأجيال القادمة ليست أطرافًا فاعلة في الوقت الراهن، فإن النظام القانوني الدولي يحث على تبني منظورات طويلة الأجل في صياغة السياسات والتشريعات. ويعني ذلك دمج مصالح الأجيال المستقبلية في صنع القرار . ويقبع دور الأجيال القادمة في التنمية المستدامة حيث لا يقتصر على كونهم مستفيدين مستقبليين فحسب، بل يشكل الضمير الأخلاقي والهدف القانوني الذي توجه إليه السياسات الوطنية والدولية.