الوطن خاص
يلخص عنوان مذكرات الشيخ جميل الحجيلان “مسيرة في عهد سبعة ملوك” سيرة رجل في تاريخ الدولة السعودية الحديثة، على مدى النصف الثاني من القرن العشرين، بما يعني أنها جزء أصيل من التاريخ الحديث للمملكة العربية السعودية، في فترة شهدت تحولات عميقة فيما يتعلق ببناء مؤسسات الدولة، وبروز السعودية كقوة إقليمية وعربية ودولية.
لقد كان الحجيلان أحد الرجال الذين كانوا محل ثقة الملوك في تعاقبهم على قيادة المملكة العربية السعودية، كما كانوا قريبين من مركز صنع القرار، ومنفذين للإرادة الملكية السامية، في الشؤون السعودية الداخلية والإقليمية والدولية. وفي كتاب ضخم يصل بجزأيه إلى ألف وخمسمئة صفحة محملة بالوثائق والصور، يتتبع الحجيلان مسيرته الشخصية والوطنية في عهد سبعة ملوك من آل سعود.
والحجيلان أحد أبرز وجوه الدبلوماسية السعودية، خدم في ديوان وزارة الخارجية يوم كان مقرّها في جدة قبل أن تنتقل إلى الرياض عام 1984، ثم في سفارتيها لدى إيران وباكستان. وعين مديراً عاماً للإذاعة والصحافة والنشر، قبل أن يعود إلى الخارجية بصفته أول سفير للسعودية في الكويت، ثم أصبح أول من حمل لقب وزير الإعلام في السعودية، تولى بعدها وزارة الصحة، ثم السفير السعودي لدى ألمانيا وفرنسا، وبعد ذلك بات أول سعودي يتولى منصب الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي.
وفي “مفتاح الكتاب”، أيّ في تقديمه للكتاب، يقول الشيخ جميل الحجيلان:” لقد أتاحت لي المناصب التي عُهِدَ بها إلي، وقربي المتواصل من مصادر القيادة في بلادي، وحرصي على أن لا ألوذ بالصمت عندما تُوجب أمانة التاريخ الالتزام بالصدق وقبول تبعات ذلك القول، في حدود الممكن من ذلك، أن أتناول في هذا الكتاب، بجزأيه الاثنين، مسيرةً في ركاب الوطن عمرُها خمسون عامًا”.
ولعل الموقف الأهم في تاريخ الحجيلان، كما ذكر في مذكراته، هو قيامه بالترجمة بين الملك عبد العزيز ووزير خارجية إسبانيا روبرتو خوزيه أرتاخو في الرياض “أبريل 1952″. فاللقاء، كما يتذكر الحجيلان، «كان أول درس في سياسة بلادي الداخلية والخارجية أتلقاه بانبهار، من رجل يتحدث التاريخ عنه بانبهار، من ملك قاد مسيرة التوحيد والبناء، وأرسى نهجاً سياسياً حكيماً لدولة ظلت في قلب الأحداث، ملتزمة بالثوابت التي أرساها الملك عبد العزيز”.
وكلما أبحرنا مع الكتاب نجد مقاطع طويلة، تحمل سمات القصة القصيرة، الباذخة الجمال، فالشيخ الحجيلان بارع في تتبع الأحداث والإضاءة على حكمة التاريخ.
فعندما يتحدث عن ذكرياته عند حضوره مؤتمر عدم الانحياز في بلغراد بيوغسلافيا، يصف نجوم المؤتمر بكل دقة وبأسلوب خلاب، ثم يتابعهم إلى حيث ينتهي بهم الحال، تيتو الشخصية العظيمة الذي كان الأكثر نجومية، والذي خلق لبلده مكانا مرموقا بكفاحه وحسن إدارته، انتهت يوغوسلافيا بانتهائه، النجم الثاني كان عبد الناصر، بعد المؤتمر بأسبوع حصل انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، طعنة قاتلة لم تأت عليه، تركت له أربع سنوات يعيشها حتى مات في هزيمة ١٩٦٧م، كذلك سوكارنو من إندونيسيا، ونكروما من غانا، ونهرو من الهند الذي انتهى كلٌ من ورثته نهاية مأساوية “إنديرا غاندي وراجيف غاندي” رغم أن الشعب الهندي وضعهم في أرفع مقام. الاستثناء الوحيد كان شو إن لاى رئيس وزراء الصين عاش متألقا وانتهى كذلك.
وفي سنوات الإعلام الصعبة والمبهجة!، توسع الإرسال الإذاعي ليغطي أرجاء المملكة والبلاد المجاورة، وأصبح هناك بث بالإنجليزية والفرنسية، ودعا الشيخ الحجيلان صحفيين لزيارة البلد والحوار مع المسؤولين، واعتمد التعليق السياسي الرصين الذي لا ينجر إلى المهاترات، ويقدم الحقائق، وأنتج فيلم “هذه بلادنا”، وفيلم “الطريق إلى عرفات”.
كما نلمس في مذكراته حضوراً فاعلاً للمرأة في حياة “ابن إبراهيم الحجيلان”، فجدته آمنة “صانعة طفولته وحصنه ضد اليتم”، ووالدته الصابرة “وضحى التي أعادت العز”، وزوجته الكريمة “أم عماد” من شاطرته السهد في سبيل المجد طيلة مسيرته، ولحظات كتابة المذكرات خلال سنوات متفرقة في أثناء رحلاتهما معا، وأدت دورا ديبلوماسيا “تكميليا” يعكس صورة مشرِقة ومشرِفة للكرم العربي الأصيل والتفهم الحضاري، حيثما ابتعث يمثل بلاده لدى طهران وإسلام آباد “أواسط الخمسينيات” الكويت “أول الستينيات، كان أول سفير سعودي لديها” ثم بون وباريس “من السبعينيات إلى التسعينيات توجت بتكريم رئاسي فرنسي بعد عقدين من التألق “19761996”، وسبقتا عمله أمينا عاما لمجلس التعاون لدول الخليج العربية 19962002 خلال دورتين حافلتين باجتهادات “حجيلانية” موفقة، سواءً لتطوير المجلس أو تفعيل الأمانة العامة.
وإذ كانت هذه المذكرات «سيرة رجل في تاريخ دولة»، فإنها بالغة الأهمية، للأجيال الجديدة، لمعرفة كيف أفنى رجال أعمارهم في خدمة الدولة السعودية ومواطنيها، وفي تأسيس وتحديث دولة أصبحت اليوم قوة اقتصادية وسياسية، على المستويات العربية والإقليمية والدولية. وتبقى هذه المسيرة، بثرائها وتعدد مجالاتها ولغتها الرقاية، من أهم المذكرات التي صدرت في السعودية، لتضاف إلى مذكرات أخرى، من بينها: غازي القصيبي “حياة في الإدارة سيرة شعرية الوزير المرافق”، ود. عبدالعزيز خوجة الشاعر والوزير “التجربة”.