اخبار تركيا

إذا كنتم تبحثون عن وجهة سياحية مختلفة بعيداً عن عطلات الشمس والبحر والرمال، فإن جنوب شرق الأناضول في تركيا تقدم لكم فرصة فريدة لاكتشاف مهد الحضارات الأولى. هذه المنطقة التي شكّلت منذ القدم نقطة التقاء للشعوب والأديان والثقافات، لا تزال حتى اليوم تحتفظ بكنوزها الطبيعية والتاريخية التي تحكي قصة البشرية منذ فجرها الأول.

هنا، في أرض دجلة والفرات، تتقاطع الأساطير مع الوقائع التاريخية، ويُعاد اكتشاف الماضي مع كل خطوة. فقد أدت الاكتشافات الحديثة في موقع غوبكلي تبه الأثري، أقدم معبد معروف في العالم، إلى إعادة تقييم كاملة لفكرة البدايات الأولى للاستيطان البشري. وعلى الرغم من مرور آلاف السنين، لا تزال التراتيل الآرامية تتردد في أديرة ماردين ومديات، شاهدة على جذور المنطقة العميقة.

وتتسم طبيعة جنوب شرق الأناضول بمناخ قاري قاسٍ؛ صيف طويل حار وجاف، وشتاء بارد مثلج. لكن هذه الظروف، إلى جانب خصوبة التربة ووفرة المياه من أنهار المنطقة، جعلت منها سلة غذاء غنية. ليس غريباً أن يُعتبر الكباب والخضروات الطازجة جزءاً أصيلاً من الحياة اليومية هنا، مدعوماً بتقاليد زراعية متوارثة.

أنهار تنبع من الأناضول لتسقي العالم

إلى جانب إرثها الحضاري، تتميز منطقة شرق الأناضول بمواردها المائية الغنية. فمن هنا تنبع أنهار دجلة والفرات وجورخ وأراس وكورا، التي تنطلق من الجبال التركية لتروي أراضي سوريا والعراق وإيران وأذربيجان قبل أن تصب في البحار البعيدة.

ويُعتبر نظام دجلة والفرات أحد أكبر الأنظمة النهرية في غرب آسيا، إذ يتحد النهران في شط العرب ليصبا في الخليج العربي. وقد كانا دائماً في قلب التاريخ، إذ أعطيا الحياة لأرض بلاد ما بين النهرين، التي شهدت ولادة أولى الحضارات والمدن والكتابة والأديان المنظمة.

نهر الفرات.. شريان التاريخ

يُعد نهر الفرات أطول أنهار غرب آسيا وأكثرها تأثيراً تاريخياً، إذ يبلغ طوله حوالي 2800 كيلومتر، منها 1263 كيلومتراً داخل تركيا. ينبع الفرات من التقاء رافدين أساسيين:

نهر قره صو (الفرات الغربي) بطول 450 كم،

ونهر مراد (الفرات الشرقي) بطول 650 كم.

يلتقي هذان الرافدان قرب كيبان في شرق تركيا، ليتحدا في مجرى الفرات الذي يعبر سوريا والعراق وصولاً إلى الخليج العربي.

تغذيه روافد أخرى مثل: طعمة، بري، جالي، منذور، قره صو ومراد. ويعتمد تدفقه على أمطار الشتاء وذوبان ثلوج الربيع. لذلك يرتفع منسوب المياه بين مارس ويونيو، ليبلغ ذروته في أبريل ومايو، بينما ينخفض بين يوليو ويناير.

وعلى ضفافه، تتجلى أهمية النهر الاقتصادية؛ فالزراعة مزدهرة في السهول الخصبة، والصيد يمثل مصدراً رئيسياً للرزق. تنتشر هنا أنواع عديدة من الأسماك مثل الشبوط والبربوني وسمك القرموط وثعبان البحر، إلى جانب برمائيات وزواحف كـ الضفادع والسلاحف. كما تنمو أشجار البلوط والفستق والصفصاف والحور إلى جانب القصب والأعشاب البرية.

سدود الفرات.. مشاريع عملاقة

تُعتبر السدود التي أُنشئت على نهر الفرات من أضخم المشاريع المائية في تركيا:

سد كيبان (210 م) بُني بين 19651975،

سد قره قايا (173 م) وسد بيريجيك وكارقاميش (افتتح عام 1987)،

سد أتاتورك العملاق قرب شانلي أورفا (19831992)، أحد أكبر السدود في العالم.

وقد غيّرت هذه المشاريع وجه المنطقة، إذ وفرت الطاقة الكهرومائية، وأمنت الري لمساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وساعدت في السيطرة على الفيضانات. مياه سد أتاتورك تُنقل عبر نفقين بطول 26.4 كم لتروي أراضي أورفاحران، ماردينجيلان بينار، سيفَرَكحلوان، وأعلى ماردين.

نهر دجلة.. النهر السريع الجريان

إلى جانب الفرات، يجري نهر دجلة بطول يبلغ حوالي 1900 كيلومتر، منها 523 كيلومتراً داخل تركيا. ينبع من جبال طوروس قرب إلازığ، ويشكل جزءاً من الحدود التركية السورية بطول 40 كم، قبل أن يعبر العراق متجهاً جنوباً حتى الخليج العربي.

يتغذى دجلة من عدة روافد مثل: باتمان، غرزان، بوطان، الخابور، الزاب الصغير والزاب الكبير. ويتميز بتقلبات كبيرة في منسوب المياه؛ إذ ينخفض معدل التدفق إلى 55 م³/ث في سبتمبر، ويرتفع إلى أكثر من 2200 م³/ث في مارس بفعل ذوبان الثلوج والأمطار.

وقد أنشئت على مجراه التركي عدة سدود مثل:

سد كرال قيزي (19851997)،

سد باتمان (19861999)،

سد دجلة (19861997)،

سد إيليسو (قيد الإنشاء وقتها).

هذه السدود وفرت الطاقة والري، لكنها أثارت جدلاً واسعاً بشأن آثارها البيئية والثقافية، خصوصاً على المدن التاريخية.

ماردين وخلفتي.. ذاكرة الحضارات

تُعتبر ماردين إحدى أبرز المدن التاريخية في تركيا، حيث أدرجت بالكامل على قائمة التراث العالمي لليونسكو. بعمارتها الحجرية الفريدة وأديرتها القديمة، لا تزال المدينة تجسد روح الحضارات التي ازدهرت على ضفاف دجلة.

أما خَلفتي قرب أورفا، فهي مستوطنة قديمة غمرتها مياه الفرات جزئياً بعد بناء السدود. اليوم تُعرف بأنها “المدينة المفقودة” التي يمكن زيارتها، حيث يطل جزء منها فوق الماء بينما يغوص الجزء الآخر في أعماق النهر.

أنهار الجنة والكتاب المقدس

يحضر دجلة والفرات في النصوص الدينية أيضاً. ففي سفر التكوين ورد ذكرهما ضمن الأنهار الأربعة التي تنبع من جنة عدن: فيشون، جيحون (سيحون)، دجلة (حداقل/هدكل)، والفرات. كما يشير سفر دانيال إلى نهر دجلة كموقع للوحي والرؤى.

بين منابع جبال الأناضول ومصب الخليج العربي، يواصل دجلة والفرات كتابة قصة التاريخ البشري. فهما ليسا مجرد أنهار، بل شرايين حضارة، غذّت الأرض بالخصوبة والشعوب بالثقافة، وحملت في مجاريهما ذاكرة الإنسانية منذ فجرها الأول وحتى يومنا هذا.

المصدر: موقع Go Türkiye الترويجي التركي الرسمي

شاركها.