يصطدم مخطط لإرسال آلاف الجنود الأوروبيين إلى أوكرانيا، في حال التوصل لاتفاق سلام بين كييف وموسكو، بعقبة رئيسية، وهي الرأي العام الأوروبي.
وأبدى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مؤخراً، انفتاحاً على فكرة تقديم نوع من الضمانات الأمنية الأميركية لكييف، بعد اقتراح فرنسا وبريطانيا إرسال “قوة طمأنة” إلى أوكرانيا عقب أي اتفاق سلام، ضمن إطار “ضمانات أمنية” تهدف لمنع روسيا من شن هجمات جديدة.
لكن القادة الأوروبيين يواجهون حقيقة “مزعجة”، مفادها أن كثيراً من الناخبين يعارضون أي انتشار عسكري قد يعرض قواتهم للخطر، حسبما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال”، الأربعاء.
وأظهرت الاستطلاعات أن 56% من الألمان يعارضون مساهمة برلين في أي انتشار عسكري، وأن 67% من الفرنسيين يؤيدون إرسال قوات فقط إذا توصلت كييف وموسكو إلى اتفاق سلام، بينما عارض 68% الفكرة في غياب مثل هذا الاتفاق.
وعارض 58.5% من البولنديين “بشدة” إرسال قوات إلى أوكرانيا، فيما قال 28% إن على بولندا “ألا” ترسل جنوداً إلى الدولة المجاورة.
وفيما رحب غالبية البريطانيين بنشر قوات لحفظ السلام بأوكرانيا، إلا أنهم لا يريدون الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع روسيا.
معضلة الجناح الشرقي للناتو
وترفض دول أوروبا الشرقية سحب قواتها من حدودها التي تُشكل الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي (ناتو). كما تنتشر المعارضة على نطاق واسع في إيطاليا وألمانيا، اللتان لا تزالان تعانيان من إرث الحرب العالمية الثانية.
وعندما أعلن المستشار الألماني فريدريش ميرتس مؤخراً عزمه بدء مشاورات مع البرلمان بشأن احتمال نشر قوات في أوكرانيا، جاءت ردود الفعل “متحفظة”.
وقال وزير خارجيته، يوهان فاديفول، إن مثل هذا الانتشار سيُرهق قدرات الجيش الألماني، الذي يعمل بالفعل على إنشاء لواء مدرع في ليتوانيا لحماية الجناح الشرقي للناتو، فيما اعتبر سياسيون آخرون أن النقاش “سابق لأوانه” في ظل غياب أي مؤشرات على قرب التوصل إلى اتفاق سلام.
ولا يمكن اتخاذ أي قرار بإرسال قوات ألمانية خارج الحدود إلا عبر البرلمان، والذي لا يحظى الائتلاف الحاكم فيه سوى بأغلبية صغيرة. وتعارض أحزاب المعارضة، من اليمين المتطرف واليسار المتشدد، بشدة، فكرة إرسال قوات إلى أوكرانيا.
وأظهر استطلاع أجرته مؤسسة “إنسا”، الأسبوع الماضي، أن 56% من المشاركين يعارضون مساهمة ألمانيا في أي انتشار عسكري، وهي نسبة ارتفعت مقارنة بالربيع الماضي.
وقال ليونارد فولترز (28 عاماً)، الذي يعمل في مجال التسويق بإحدى الشركات الناشئة في برلين: “أخشى ألا يكون الجيش الألماني قادراً على القيام بهذه المهمة من دون أن يتركنا بلا حماية في الداخل”.
وفي فرنسا، وهي من أبرز الداعمين لفكرة نشر قوات، يرتبط التأييد الشعبي بوجود اتفاق سلام نهائي لا بمجرد وقف لإطلاق النار.
الرأي العام الأوروبي
وفي مارس الماضي، أظهر استطلاع أجرته مؤسسة “إيلاب” أن 67% من الفرنسيين يؤيدون إرسال قوات إذا توصلت كييف وموسكو إلى اتفاق سلام، بينما عارض 68% الفكرة في غياب مثل هذا الاتفاق.
ويقول مسؤولون أوروبيون إنه من الصعب إقناع الرأي العام بأي انتشار عسكري من دون إعلان واضح من واشنطن بأن القوات الأوروبية ستلقى دعم الجيش الأقوى في العالم.
ورغم حراك دبلوماسي مكثف في الأسابيع الأخيرة، لا تزال الرؤية غامضة بشأن ما ستقدمه الولايات المتحدة. فقد استبعد ترمب نشر قوات أميركية على الأرض، لكنه أكد أن بلاده ستؤدي دوراً ما في ضمان أمن أوكرانيا.
ويؤكد كثير من القادة الأوروبيين أن نشر قوات في أوكرانيا “أمر حيوي لأمن القارة”، محذرين من أن روسيا “ستواصل التوسع نحو أجزاء أخرى من أوروبا إذا سقطت كييف”، مشيرين إلى أن الحضور العسكري على الأرض يظهر التزام أوروبا بحماية أوكرانيا في الوقت الذي تدرس فيه واشنطن طبيعة الضمانات الأمنية التي قد تقدمها.
وتلقى هذه الطروحات دعماً شعبياً واسعاً في بعض دول شمال أوروبا. فقد أعلنت هولندا والدنمارك وإستونيا استعدادها لإرسال قوات.
“تقديم دعم استراتيجي”
وسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى طمأنة الرأي العام بأن أي انتشار سيكون متمركزاً في المطارات، والبنى التحتية الحيوية، بعيداً عن مناطق القتال. وأكد ماكرون وغيره من القادة الأوروبيين أن الدفاعات الأمامية يجب أن تظل مهمة الجيش الأوكراني المجهز جيداً.
وقال ماكرون: “الهدف من قوات الطمأنة ليس القيام بمهام حفظ السلام، أو حراسة الحدود، بل تقديم دعم استراتيجي”.
أما مشاركة بريطانيا فما زالت مشروطة. إذ شدد رئيس الوزراء كير ستارمر على أن أي قوة أمنية ستُنشر فقط إذا تعهدت الولايات المتحدة بتوفير غطاء عسكري لدعم القوات البريطانية في حال تعرضها لهجوم روسي.
وتُظهر استطلاعات الرأي أن غالبية البريطانيين يرحبون بمشاركة قواتهم في أي مهمة لحفظ السلام، لكنهم لا يريدون الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع روسيا.
ولم تُجب حكومة ستارمر حتى الآن عما إذا كانت القوات البريطانية المتمركزة في أوكرانيا ستُمنح صلاحية إطلاق النار على الجنود الروس في حال “غزو جديد”.
وفي الأثناء، جرى تقليص الخطط الضخمة التي كانت تستهدف نشر قوة حفظ سلام أوروبية قوامها 30 ألف جندي، جزئياً بسبب نقص أعداد الجيش البريطاني. وباتت فرنسا وبريطانيا تخططان لنشر ما بين 6 آلاف و10 آلاف جندي فقط.
خلاف إيطالي فرنسي
ويرجح مسؤولون أن تقتصر مشاركة بريطانيا على المجالين البحري والجوي، من خلال المساهمة في مراقبة الأجواء والمياه و”ردع أي اختراق روسي”، فيما ستقتصر مساهمة الجيش على تدريب القوات البرية الأوكرانية.
لكن الدفع نحو تشكيل قوة أوروبية، حتى ولو بمهام محدودة، يثير انتقادات، خصوصاً من التيارات الشعبوية في القارة. فبعد لقاء قادة أوروبا بترمب في واشنطن، وهو ما أعطى زخماً للفكرة، شن نائب رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو سالفيني هجوماً على ماكرون.
وقال سالفيني، زعيم حزب “الرابطة” اليميني المتشدد: “إذا كنت تريد الذهاب فاذهب بنفسك. ضع خوذتك وسترتك العسكرية وبندقيتك واذهب إلى أوكرانيا”.
خط أحمر من بولندا
وكانت بولندا من أكبر الداعمين لأوكرانيا في السنوات الأولى من الحرب، إذ أرسلت طائرات مقاتلة ودبابات ومروحيات وناقلات جند مدرعة إلى الجبهة. لكنها رسمت خطاً أحمر بشأن إرسال قوات إلى أوكرانيا ضمن قوة أمنية مدعومة من الولايات المتحدة.
وتؤكد وارسو أن المخاطر المترتبة على إرسال قوات إلى أوكرانيا أكبر بكثير بالنسبة للدول الحدودية، محذرة من أن مشاركة قواتها قد تؤدي إلى تصعيد يمتد إلى داخل الأراضي البولندية.
وبعد موجة الدعم الكبيرة عام 2022، وتدفق اللاجئين الأوكرانيين إلى أراضيها، أصبحت الحرب قضية “شديدة التسييس” في بولندا، حيث يدعو كثيرون إلى موقف أقل انخراطاً.
وأظهر استطلاع أجرته مؤسسة “يونايتد سيرفيز” المستقلة في مارس أن 58.5% من البولنديين يعارضون بشدة إرسال قوات إلى أوكرانيا، فيما قال 28% إن على بولندا “ألا” ترسل جنوداً إلى الدولة المجاورة.