تشو شيوان **

في الثالث من سبتمبر 2025، احتفلت الصين بالذكرى الثمانين لانتصارها في الحرب العالمية الثانية، تحت شعار يُسلط الضوء على أهمية السلام والتنمية المشتركة، وقد أقيمت الفعالية في العاصمة بكين عبر عرض عسكري ضخم وفعالية ثقافية متنوّعة، شارك فيها قادة محليون ودوليون، ولم يكن هذا الاحتفال مجرد استذكار لانتصار تاريخي؛ بل رسالة سياسية وحضارية تعكس تصميم الصين على الدفاع عن السلم العالمي ومناهضة الحروب والهيمنة، كما شكّل الحدث فرصة لإبراز وحدة الشعب الصيني وقوته المتنامية، وربط الماضي بالحاضر من خلال التأكيد على أن النصر الحقيقي لا يُقاس فقط بالمعارك، بل بالقدرة على تحويل التضحيات إلى طاقة بنّاءة لمستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا.

في خضّم الأيام التي تزدحم فيها الذاكرة العالمية، تأتي ذكرى يوم النصر على الفاشية لتذكرنا ليس فقط بانتصار الماضي، بل لتكلمنا عن ضرورات الحاضر والمستقبل، وفي احتفالات هذا العام، أجد أن كلمة الرئيس الصيني شي جين بينغ، حملت في طياتها ما يتجاوز الخطاب الاحتفالي المعتاد لتصبح رسالة ذات طبقات متعددة من المعنى، تتناسب بشكل عميق مع اللحظة التاريخية التي نعيشها.

هذا رأيي الشخصي: إن أهمية كلمة الرئيس شي تحديدًا تنبع من السياق العالمي المضطرب الذي يشهد تصاعدًا في نزعات الهيمنة والحماية والصراعات، العالم اليوم، للأسف يعاني من ويلات صراعات جديدة وتصاعد في الخطاب الذي يذكرنا، ولو من بعيد، بنذر الماضي المظلم. في هذه الأجواء، تصبح رسالة الصين، كما عبر عنها الرئيس، بمثابة منارة للتعددية والسلام.

في كلمته خلال العرض العسكري الضخم في ميدان تيانآنمن، وجّه الرئيس شي جين بينغ تحذيرًا للعالم قائلًا: “الإنسانية اليوم مجددًا أمام خيارين: السلام أم الحرب، الحوار أم المواجهة، التعاون رابحرابح أم لعبة مجموع صفري”، وقال إن “الشعب الصيني يقف بثبات على الجانب الصحيح من التاريخ”، وهذا إن دل فيدل على أنَّ مضمون الرسالة التي أراد إيصالها بوضوح: أن السلام ليس خيارًا ضعيفًا؛ بل مبدأ يجب اختياره والتشبث به، كما إن تأكيده على أن الصين “تقف على الجانب الصحيح من التاريخ” يوحي بأهمية الدور الذي تجد فيه الصين نفسها كقوى عظمى لها مسؤولياتها تجاه العالم، ليس فقط في حماية مصالحها الشرعية بل في المساهمة بإطار أوسع يرسّخ السلام العالمي.

لقد ركَّز الخطاب، من وجهة نظري، على فكرتين رئيستين لا تنفصلان الأولى هي “ذكرى التضامن”؛ إذ ذكَّرنا الرئيس بأن النصر لم يكن من صنع أمة واحدة؛ بل كان ثمرة جهد مشترك وتضامن دولي؛ حيث سقط جنود من الشرق والغرب من أجل قضية واحدة هي تحرير الإنسانية، وهذه الرسالة هي تذكير قوي في زمن تحاول فيه بعض الأصوات تشويه التاريخ ونسيان هذه الشراكة العالمية، وزرع بذور الانقسام.

أما الفكرة الثانية، والتي أجدها هي جوهر الرسالة فتكمن في الدعوة إلى “بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية”، هذه ليست مجرد شعارات، بل هي رؤية تلخص فلسفة الصين في التعامل مع العالم، ففي لحظة يشكك فيها البعض في العولمة ويعمل على تقويض مؤسسات التعاون الدولي، تقدم الصين نفسها كداعية للتعاون والمنفعة المتبادلة والتنمية السلمية. وأعتقد أن الصين لن تنغلق على نفسها، بل ستظل جزءًا فاعلًا في النظام الدولي، داعية للحوار وليس المواجهة، وللبناء وليس الهدم.

لذلك، أنا أرى أن أهمية هذا الخطاب لم تكن فقط في إحياء ذكرى الأجداد الذين قدموا أرواحهم ثمنًا للسلام، بل كانت أيضًا خطابًا موجهًا للأحفاد، بل أجد أنه يخبرنا أن دروس الماضي لم تمت، وأن مسؤولية الدفاع عن السلام والتعاون هي مسؤولية جيلنا الحالي، ولقد اختار الرئيس التوقيت المناسب تمامًا ليوجه رسالة ثقة ومسؤولية، ليس للشعب الصيني فقط، بل لكل العالم مفادها أن طريق المواجهة هو طريق مسدود، وأن طريق المستقبل الوحيد هو طريق التعاون والاحترام المتبادل، وهذا في نهاية المطاف هو الإرث الحقيقي الذي يجب أن نحتفظ به من يوم النصر.

في النهاية يجب أن نعلم أن احتفالات الصين بيوم النصر لم تكن مجرد مناسبة لاستحضار ذكرى تاريخية، بل كانت رسالة واضحة للعالم مفادها أن القوة الحقيقية تكمن في حماية السلام والاستقرار والتنمية والازدهار. لقد أرادت بكين أن تؤكد أن انتصارها قبل ثمانين عامًا لم يكن نهاية لصراع فحسب؛ بل بداية لمسيرة طويلة نحو بناء عالم أكثر عدلا وإنصافا وتعاونا. ومن خلال هذا الحدث، جددت الصين التزامها بالعمل مع مختلف الدول على تعزيز التنمية المشتركة ومواجهة التحديات العالمية بروح الشراكة لا المواجهة. فالصين داما تضع السلام في صميم رؤيتها للمستقبل، إيمانًا منها بأن التنمية الحقيقية لا تزدهر إلا في بيئة آمنة ومستقرة.

** صحفي في مجموعة الصين للإعلام، متخصص بالشؤون الصينية وبقضايا الشرق الأوسط والعلاقات الصينية العربية

 

شاركها.