بعد قرابة 14 عاماً من العمل وسط تجاذبات وتوترات إقليمية خصوصاً مع مصر والسودان، تستعد إثيوبيا لافتتاح سد النهضة الواقع على النيل الأزرق، أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل.
وتقول إثيوبيا إن السد سيولد عند تشغيله بكامل طاقته أكثر من 5 آلاف ميجاواط من الكهرباء، أي أكثر من ضعف إنتاجها الحالي، ما يجعله “أكبر مشروع لتوليد الطاقة الكهرومائية” في إفريقيا، بحسب تقديرات الخبراء.
وأطلقت أديس أبابا على السد الضخم اسم “سد النهضة الإثيوبي الكبير” Grand Ethiopian Renaissance Dam، إذ تعده حجر الأساس الذي تبني عليه طموحاتها في أن تصبح أكبر دولة مصدّرة للكهرباء من المصادر المائية في إفريقيا، ما قد يُحوّل الدولة التي يبلغ عدد سكانها 120 مليون نسمة إلى مُصدّر صافٍ للطاقة.
ماذا نعرف عن السد الإثيوبي؟
بدأت أعمال بناء السد في أبريل 2011 بتكلفة تصل إلى 4 مليارات دولار، وجرى الإعلان عن افتتاحه رسمياً في سبتمبر 2025.
ويعد السد الإثيوبي “أكبر مشروع كهرومائي في إفريقيا” إذ يبلغ طوله 1.8 كيلومتر، وارتفاعه 145 متراً فيما تصل سعته إلى 74 مليار متر مكعّب من المياه، وفق وزارة الماء والطاقة الإثيوبية.
ويقع السد على النيل الأزرق، وهو أحد الروافد الرئيسة لنهر النيل، ويساهم بما يصل إلى 80% من مياه النيل خلال موسم الأمطار.
ويتواجد السد على بُعد حوالي 700 كم شمال غرب العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وعلى مسافة 30 كيلو متراً تقريباً من الحدود بين إثيوبيا والسودان، في إقليم بني شنقول-قمز على طول نهر النيل الأزرق.
وينبع النيل الأزرق من بحيرة تانا في مرتفعات إثيوبيا الشمالية الغربية، ويجري لمسافة نحو 1450 كيلومتراً، ليجتمع مع نهر النيل الأبيض في العاصمة السودانية الخرطوم، قبل أن يصبا في مصر باتجاه البحر المتوسط.
كيف يعمل سد النهضة؟
يحتوي السد الإثيوبي على 3 مسارات لتصريف المياه، ويبلغ ارتفاعه 145 متراً، ويغطي خزان السد مساحة 1874 كيلومتر مربع، ويشمل المشروع أيضاً سداً فرعياً من الردميات الصخرية بواجهة خرسانية بطول 5 كيلومترات وارتفاع 60 متراً، وحجم الردميات حوالي 17 مليون م³، بحسب منظمة Hydropower.
كما يضم السد محطتي توليد كهرباء مجهزتين بـ13وحدة توليد طاقة، بطاقة إجمالية تبلغ حوالي 5150 آلاف ميجاوات، وإنتاج سنوي متوسط يقدر بـ 15 ألفاً و700 جيجاواط/ساعة.
وأنشأ المشروع بحيرة لتجميع مياه الأمطار ومياه النهر وتوجيهها إلى السد الرئيسي، ويُقدَّر متوسط التدفق الخارج السنوي بنحو 50 مليار م³ من المياه.
وتتجاوز قدرة توليد الكهرباء المخطط لها القدرة المركبة الحالية للبلاد والبالغة 4 آلاف و478 ميجاواط في عام 2021، ويضم خزاناً قادراً على احتواء 74 مليار متر مكعب من المياه.
وتسعى إثيوبيا إلى أن يُنتج السد الكهرباء لـ 60% من سكانها الذين لا يحصلون على الكهرباء حالياً، ويُؤمل أن يُضاعف هذا إنتاج البلاد من الكهرباء في نهاية المطاف، وأن يُوفر للشركات إمدادات كهربائية مُستمرة، وأن يُعزز التنمية.
ووفقاً للبنك الدولي، فإنه حتى يناير 2025، كان حوالي 60 مليوناً من أصل 130 مليون نسمة في إثيوبيا يعيشون بدون كهرباء.
كمية المياه المحتجزة
ومثلت عملية الملء الكامل لخزان السد والتي تطلبت 74 مليار متر مكعب، نقطة خلاف كبيرة بين إثيوبيا ودولتي المصب مصر والسودان، ففي 2020 أعلنت الحكومة المصرية أنها تريد ملء السد على مدار 6 أو 7 سنوات، فيما تمسكت أديس أبابا بملء السد بوتيرة أسرع.
ووفق البيانات الأخيرة حول المرحلة الخامسة من عملية تخزين المياه، والتي بدأت منتصف 2024، فإن نحو 60 مليار متر مكعب على الأقل جرى احتجازها.
ويتواجد السد الإثيوبي ضمن قائمة أكبر السدود في العالم من حيث سعة التخزين، والتي تضم سد كاريبا في زامبيا بسعة تخزينية تبلغ حوالي 185 مليار م3، وسد براتسك في روسيا بسعة تبلغ 169مليار م3، والسد العالي في مصر بسعة تخزينية 169مليار م3، وسد أكوسومبو في غانا بسعة 150 مليار م3، وسد دانيال- جونسون في كندا بسعة 139 مليار م3، وسد جوري في فنزويلا بسعة 135 مليار م3، وسد بينيت في كندا بسعة 74 مليار م3، وسد كراسنويارسك الروسي بسعة 73 مليار م3.
وتحدد اتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان الحصة السنوية من مياه النيل، إذ تصل حصة مصر الفعليّة إلى 55.5 مليار متر مكعب، ويبلغ نصيب السودان 18.5 مليار متر مكعب، باعتبار أن الإيراد الكلي للنهر هو 84 ملياراً، يضيع منها نحو 10 مليارات أثناء الاندفاع من الجنوب إلى الشمال بسبب البخر والتسرب، وفق الهيئة العامة للاستعلامات في مصر.
ما مدى اعتماد الدول الثلاث على مياه النيل؟
تعتمد مصر بشكل شبه كامل على مياه نهر النيل إذ تبلغ مواردها المائية حوالي 60 مليار متر مكعب سنوياً، يأتي معظمها من النيل 55.5 مليار متر مكعب (حوالي 90%)، بالإضافة لكميات محدودة للغاية من مياه الأمطار والمياه الجوفية بالصحاري 4.5 مليار م3 (10%)، ويبلغ نصيب الفرد حوالي 589 متراً مكعباً سنوياً، وهو أقل بكثير من خط الفقر المائي (650 متراً مكعباً في السنة)، ما يضع البلاد في حالة عجز سنوي يقارب 21 مليار متر مكعب يتم تعويضه عبر إعادة الاستخدام، والاستخراج الجوفي، واستيراد الغذاء.
وفي السودان تقدر الموارد المائية سنوياً بحوالي 38 مليار م3، عبارة عن 18.5 مليار متر مكعب من مياه النيل، والباقي من الأنهار الأخرى، والسيول، بالإضافة إلى المياه الجوفية، بنصيب سنوي للفرد قرابة 933 متراً مكعباً.
وتتمتع إثيوبيا بالنصيب الأكبر من موارد المياه المتجددة بين الدول الثلاث، إذ كشف تقرير صادر عن وزارة الموارد المائية عام 2002 أنَّ حجم مياه الأنهار (دون احتساب المياه الجوفية) يقدّر بحوالي 122 مليار متر مكعب، فيما تبلغ حصة الفرد سنوياً من المياه ما يعادل حوالي 1160 متراً مكعباً.
وتشير عدة دراسات إلى أن مياه الأنهار في إثيوبيا تبلغ حوالي 123 مليار م3 سنوياً يخرج منها إلى نهر النيل عبر أنهار النيل الأزرق، وعطبرة، والسوبات 72 مليار م3، وبالتالى يتبقى لإثيوبيا قرابة 51 مليار متر مكعب من مياه الأنهار الأخرى، وإن حاجتها لمياه أنهار النيل منعدمة لتوافر البدائل الغزيرة.
ووفق خبراء، تعد إثيوبيا ثاني أغنى دولة في القارة الإفريقية على المستوى المائي بعد الكونغو الديمقراطية، فهي منبع ومصدر المياه لمعظم دول الجوار مثل السودان، والصومال، وتصل المياه السطحية المتجددة فيها سنوياً إلى نحو 122 مليار متر مكعب يمثل جل مصدرها من الأمطار التي تهطل سنوياً على الهضبة الإثيوبية بمقدار متوسط يقدر بنحو 970 مليار متر مكعب سنوياً، حيث تحوي 12 نهراً سطحياً و22 بحيرة ومخزوناً كبيراً من المياه الجوفية المتجددة.
وتواجه إثيوبيا تحديات في التخزين والاستفادة، إذ لم تطوِّر سوى جزء صغير من إمكاناتها الزراعية (أكثر من 3.5 مليون هكتار صالحة للري)، كما أن استغلال المياه الجوفية ما زال محدوداً.
كيف موّلت إثيوبيا السد؟
ويثار الكثير من الجدل والتساؤلات بشأن مصادر تمويل السد الإثيوبي خاصة في ظل التوتر الإقليمي الذي أحدثه المشروع، لكن الدوائر الرسمية الإثيوبية تحصرها في “تمويل البنك التجاري الإثيوبي، وبيع السندات، والجاليات الإثيوبية في الخارج، وهدايا وتبرعات، والمساهمة المباشرة من الشعب”.
وخلال مؤتمر صحافي، مطلع سبتمبر، أعلنت شركة الكهرباء الإثيوبية (EEP) أن البنك التجاري الإثيوبي موّل 91% من إجمالي تكلفة بناء السد.
وأوضح مدير الاتصالات في الشركة، موجس مكونن، أن الـ9% المتبقية جرى جمعها من مساهمات عامة، ومن بيع السندات، ومن الجاليات الإثيوبية في المهجر، ومن تبرعات وهبات، دون أن يشير إلى أي تمويلات أو مصادر دعم خارجية.
ومنذ عودته إلى البيت الأبيض تحدث الرئيس الأميركي دونالد ترمب في أكثر من مناسبة عن أن الولايات المتحدة هي التي موّلت بناء السد الإثيوبي.
البداية كانت في يونيو الماضي، فخلال إعلان ترمب عن توصله بالتعاون مع وزير الخارجية ماركو روبيو، إلى اتفاق سلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا قال إنه “لن يحصل على جائزة نوبل للسلام لهذا الإنجاز، ولا لإيقاف الحرب بين الهند وباكستان، أو بين صربيا وكوسوفو، ولا للحفاظ على السلام بين مصر وإثيوبيا (مشيراً إلى السد الإثيوبي الضخم، الذي قال إنه مموّل “بغباء” من الولايات المتحدة، ويقلل بشكل كبير من تدفق المياه إلى نهر النيل)”.
ومطلع يوليو كرر ترمب الحديث نفسه خلال استقباله الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، مارك روته، في البيت الأبيض قائلاً: الولايات المتحدة موّلت السد، وسيكون هناك حل سريع للأزمة”.
ولاحقاً، قال ترمب في خطاب أمام أعضاء مجلس الشيوخ في واشنطن: “تم التعامل مع مصر وإثيوبيا، كما تعلمون كانتا تتقاتلان بسبب السد، إثيوبيا بنت السد بأموال الولايات المتحدة إلى حد كبير”.
ونفت أديس أبابا تصريحات الرئيس الأميركي بشأن تمويل بلاده عملية بناء السد الإثيوبي.
مخاوف مصر والسودان
ويمثل السد الإثيوبي تحدياً جيوسياسياً معقداً، فمنذ بدء المشروع عام 2011، أعربت مصر والسودان عن مخاوف كبيرة بشأن أمنهما المائي.
وتتمسَّك القاهرة بـ”الحق التاريخي” لها في مياه النيل، والذي تضمنه سلسلة اتفاقات مبرمة منذ عام 1929، حيث حصلت مصر حينها على حق النقض (الفيتو) ضد بناء أي مشاريع على النهر.
وفي عام 1959، حصلت مصر بموجب اتفاق مع الخرطوم حول توزيع مياه النيل، على حصة بنسبة 66% من كمية التدفق السنوي للنيل، مقابل 22% للسودان.
لكن في عام 2010، وقّعت دول حوض النيل، باستثناء مصر والسودان، اتفاقاً جديداً نصَّ على إلغاء حقّ النقض الذي تتمتّع به مصر وسمح بإقامة مشاريع ريّ وسدود لإنتاج الكهرباء.
وتخشى مصر، التي تعتمد على نهر النيل لأكثر من 90% من احتياجاتها من المياه العذبة، من أن ملء السد دون تنسيق قد يعرض إمداداتها للخطر، كما تتخوف الخرطوم من مخاطر قد يشكلها السد على السدود والمناطق الزراعية الواقعة أسفل مجرى النهر في داخل حدود السودان.
وعلى الرغم من توقيع إعلان المبادئ عام 2015 الذي التزم فيه البلدان الثلاثة بالوصول إلى تفاهم متبادل، استمرت إثيوبيا في ملء خزان السد، الذي بدأ في 2020، دون اتفاق مع دولتي المصب.
وأوصت الأمم المتحدة في 2021 باستئناف المحادثات تحت إشراف الاتحاد الإفريقي، لكن لم يتم إحراز تقدم واضح.
وخلال مناسبات عديدة، أكدت مصر حقها في الدفاع عن مياهها وأمنها إذا ما تعرضت مصالحها للتهديد، متهمة أديس أبابا بالتعنت، وعدم المرونة.
وبينما تُعلن إثيوبيا تمسكها بحقها في التنمية عبر “سد النهضة”، تؤكد مصر تمسكها بضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم ينظم عملية ملء وتشغيل السد، ويضمن حقوق دول المصب، خاصة في فترات الجفاف.
كما تشدد القاهرة على أهمية التنسيق والتعاون بين الدول الثلاث المعنية، مصر، والسودان، وإثيوبيا، لتفادي أي توتر قد ينجم عن الإجراءات الأحادية.