اخبار تركيا

استعرض الكاتب والمفكر التركي سلجوق تورك يلماز، تحليلاً معمّقاً حول التحولات الجيوسياسية والحقوقية التي طرأت منذ تجدد الهجمات على غزة، مركّزاً على دور الصحفي مات كينارد الذي وثّق جرائم الحرب الإسرائيلية بدعم من القوى الأنجلوساكسونية الكبرى، ولا سيما بريطانيا والولايات المتحدة.

يشير الكاتب في مقال بصحيفة يني شفق إلى محكمة غزة التي يقودها جيرمي كوربن في بريطانيا، والتي تهدف لمحاسبة المتورطين في هذه الجرائم، معتبرًا أن هذه المحاكمات ستزداد أهمية مع مرور الوقت في ظل انكشاف الوجه الاستعماري لهذه الدول.

ويربط تورك يلماز بين الهيمنة الأنجلوساكسونية التاريخية على منطقة البحر المتوسط، ودور إسرائيل كأداة للحفاظ على هذه الهيمنة، ويناقش بداية تشكل تحالفات جديدة في دول البحر المتوسط تهدف إلى مقاومة هذه السيطرة والتوجه نحو حضارة متوسطية أكثر شمولاً واستقلالاً.

وفيما يلي نص التقرير:

سمعت باسم الصحفي مات كينارد بعد استئناف الهجمات الاستعمارية على غزة. فقد برز كينارد بتقاريره المؤثرة حول جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل، بدعم مباشر من الولايات المتحدة وبريطانيا، وها هو الآن يطرح بعض الادعاءات في “محكمة غزة” التي يقودها في بريطانيا جيرمي كوربن. ولسنا هنا بصدد الخوض في تفاصيل تلك المحاكمة، لكنني على يقين بأن مثل هذه المحاكم المتعلقة بجرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل وبريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا ستغدو مع مرور الوقت ذات أهمية متزايدة. ذلك أن هذه الدول كانت لزمن طويل عناصر مهيمنة على النظام العالمي، وشكّلت العالم بأسره وفقاً للمنظور الأنجلوساكسوني. وبالطبع، لن يدور العالم إلى الأبد في فلكهم. وما إن أدركوا ذلك حتى بدأوا ينكرون كل ما سبق أن عرضوه على العالم من قيم. لقد كشف الفلسطينيون للعالم بأسره وجههم الجديد في غزة والضفة الغربية. ومن هذا المنطلق فإن شهادات الصحفيين أمثال كينارد ذات قيمة كبيرة.

وقد صرّح كينارد أمام المحكمة قائلًا: “كنتُ أصف الأمر سابقًا بأنه تواطؤ في الجريمة، لكن بعد فحص الأدلة خلصتُ إلى أن الوضع يتجاوز حدود شراكة في الأرباح. فأنا أعتقد أن بريطانيا متورطة بشكل مباشر في العمليات العسكرية، وتعاقدت حكومة حزب العمال سرًا مع شركة أمريكية تُدعى سييرا نيفادا لتنفيذ العمليات”.

على مدى عامين، وأنا أحاول كتابة مقالات عن الاستعمار لتوضيح الوضع الذي كشفه الصحفي مات كينارد بتصريحاته. إذ وقعنا في خطأ جسيم حين ظننا أنّ ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة يشعرون بالحرج أو الذنب أمام اليهود بسبب جرائم الإبادة التي اقترفوها في أوروبا، ونتيجةً لذلك، وبسبب الدعاية التي تعرضنا لها في النصف الثاني من القرن العشرين، لم تتمكن أي حركة فكرية أو سياسية من اختراق الحضارة اليهودية الأنجلوسكسونية. فقد تحرك الأنجلوسكسون على مدى قرنين تقريبًا في منطقتنا بحجة “مهمة التمدين”، ولم يكن من الممكن إيقافهم فكريًا. ولا مبالغة في القول إن الفلسطينيين هم الطرف الذي واجههم بأقوى صورة حتى الآن. وها قد شارفت السنة الثانية على الانتهاء، وخلال هذه الفترة، استطاع الفلسطينيون تحريك العالم بأسره تقريبًا. ففي هذه الأثناء، انكشف الوجه الاستعماري للحضارة اليهودية الأنجلوساكسونية. وهذا يُعَدّ نتيجة مباشرة للرسائل القوية التي بعثت بها حرب الاستقلال الفلسطينية.

منذ السابع من أكتوبر، يشهد العالم تغيّرًا جذريًا. ولم تسلم مفاهيم مثل “الحضارة الأوروبية” من تأثير هذا التحول. ففي القرن الماضي، لم يكن يُثار أي تساؤل حول مفاهيم كـ”الغرب” و”أوروبا”، لكن خلال العامين الماضيين أدركنا أن هذه المفاهيم العامة نشأت نتيجة هيمنة مرحلية. في الواقع، حتى الدول الأوروبية خضعت للهيمنة الأنجلوساكسونية، ولم تتمكن من التحرك ضد ألمانيا، وبريطانيا، والولايات المتحدة. وقد أثبت لهم أهل غزة هذه الحقيقة. ومن جهة أخرى، فإن انطلاق أسطول الصمود العالمي من موانئ دول البحر المتوسط يحمل دلالات مهمة للمستقبل.

ورغم عدم امتلاكهم علاقات جغرافية مباشرة، تمكن الأنجلوساكسون بعد الرومان والعثمانيين من فرض هيمنتهم على البحر المتوسط. ومن أهم نتائج وأسس هذه الهيمنة قيام إسرائيل، فقد ارتكب الصهاينة، بهدف الحفاظ على الهيمنة الأنجلوساكسونية، جرائم مروعة في الأراضي الفلسطينية التاريخية تعد وصمة عار على جبين الإنسانية جمعاء.

وكما كشفت المحكمة التي يقودها جيريمي كوربين، فإن بريطانيا كانت متورطة بشكل مباشر في هذه الجرائم. ورغم ذلك، لم تتمكن دول البحر المتوسط من التحرك على مستوى الدول لمواجهة هذه الجرائم، إذ كان واضحًا أن جميعها تدرك النوايا المختلفة للأنجلوساكسونيين، الذين يسعون إلى تعميم الصراع عالميًا وإعادة بناء الهيمنة التي أقاموها خلال القرنين الماضيين. ولكن، نجح أسطول الصمود العالمي في التحرك من موانئ البحر المتوسط، وقد وفرت تركيا لهذا الأسطول مجالًا واسعًا للمناورة، ويُعد تحرك الأسطول من موانئ إسبانيا وإيطاليا خلال مرحلة الاستعداد إنجازًا بالغ الأهمية.

واستنادًا إلى ما سبق، يمكن القول إن دول البحر المتوسط بدأت تتخذ خطوات ملموسة لصالح البحر المتوسط. وفي المقابل، تُفرض إجراءات عنيفة للغاية على المشاركين في الفعاليات الفلسطينية في ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة، مما يخلق نوعًا من الانقسام الواضح. وفي الوقت الذي تتبع فيه القوى الأنجلوساكسونية سياسة توسعية عبر إسرائيل في البحر المتوسط، يمكننا القول إن جبهة جديدة بدأت تتشكل في بعض الدول المحيطة بالبحر المتوسط. وإذا كنا بصدد الحديث عن «حضارة متوسطية»، فلا بد أن يكون لذلك مقابل عملي، ويتوقف ذلك على أن تصبح عبارة «المتوسط» أكثر شمولية من أي وقت مضى.

شاركها.