وسط تصاعد التوتر على الجبهة الشرقية في أوروبا، أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “الناتو” مارك روته إطلاق عملية “الحارس الشرقي” لتعزيز دفاعات بولندا بعد اختراق طائرات مسيرة روسية لأجوائها، بدعم من دول أوروبية رئيسية لردع الاستفزازات الروسية.

وشدّد مسؤولون عسكريون سابقون في حلف شمال الأطلسي (الناتو) خلال حديثهم لـ”الشرق”، على أن الاستفزازات الروسية الأخيرة ضد بولندا، هي جزء من اختبار محسوب لوحدة الحلف “أوروبياً” وقدرته على الرد دون الحاجة إلى تفعيل المادة الـ5 من ميثاق الحلف.

وتثار تساؤلات بشأن ما إذا كانت هذه التحركات الروسية مجرد رسائل ضغط، أم جزءاً من استراتيجية أوسع لاختبار مدى تماسك الحلف واستعداده للرد.

“استفزاز يحمل رسالتين”

بحسب الدبلوماسي البولندي فيتولد يوراش فإن الحادث الأخير لم يكن هجوماً عسكرياً مباشراً، بل استفزازاً مقصوداً، إذ لا يبدو أن روسيا كانت تنوي تدمير أي شيء داخل الأراضي البولندية.

وأوضح يوراش (الدبلوماسي الذي مثل بلاده في روسيا وبيلاروس سابقاً)، أن الاستفزاز جاء لاختبار رد فعل الناتو، إذ فشل الروس هذه المرة في تحقيق هدفهم.

وأضاف لـ”الشرق”: “الرد الأوروبي من خلال الدعم العسكري حتى الآن جيد وقوي، بينما الرد الأميركي لم يكن على قدر التوقعات، خاصة موقف الرئيس الأميركي دونالد ترمب”، موضحاً أن “الجميع في أوروبا يدرك أن التهاون مع روسيا سيشجعها على تكرار مثل هذه الأفعال”.

ورداً على تصريح ترمب بأن الهجوم “قد يكون وقع عن طريق الخطأ”، قال رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، في منشور عبر منصة “إكس”، الخميس: “نتمنى أيضاً أن يكون الهجوم بالطائرات المسيّرة على بولندا خطأ… لكنه لم يكن كذلك، ونحن نعلم ذلك”.

ولاحقاً، قال ترمب لقناة FoxNews، الجمعة، إن “صبره بدأ ينفد تجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين”، لكنه لم يصل إلى حد التلويح بفرض عقوبات جديدة”؛ ما اعتُبر مؤشراً على التباين في مواقف الحلفاء الغربيين حيال موسكو، رغم إبلاغ واشنطن، مجلس الأمن الدولي، أنها “ستدافع عن كل شبر من أراضي حلف الناتو.

ووفقًا لفيتولد يوراش “الذي ألّف كتباً عدّة من بينها (شياطين روسيا) عن فلاديمير بوتين، و(شيطان من الخلف) عن الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، والمشارك في تأليف (مجموعة بوتين: حول النخبة الحاكمة في الكرملين)، فإن الاستفزاز الروسي الأخير حمل رسالتين: اختبار وحدة الناتو، واستغلال الانقسام السياسي في بولندا”.

تباين الروايات

من جانبه، قال نائب القائد الأعلى لقيادة التحول في الناتو سابقاً، الجنرال البولندي ميتشيسلاف بونيك، إن الانتهاكات المتكررة للمسيرات الروسية تمثل اختباراً لمصداقية حلف شمال الأطلسي. 

وأضاف بونيك الذي كان يشغل منصب مستشار وزير الدفاع البولندي لـ”الشرق”، أن نشر قوات إضافية يأتي ضمن التقييم الاستخباراتي من خلال تفعيل المادة 4، وتعتبر خطوة أولية للتشاور “لكن وارسو تنتظر دعماً أوسع”.

وأوضح أن قرار إسقاط المسيّرات “محفوف بالمجازفة”، إذ قد تكون تائهة أو غير مسلحة، كما قد تكون مقصودة لاختراق الأنظمة، ما يجعل تقييم مسارها ومكان سقوطها في ظروف ليلية “مهمة بالغة الصعوبة” في تقييم الوضع.

وكانت وزارة الدفاع الروسية أكدت أن الهجوم على منشآت أوكرانية في 10 سبتمبر لم يستهدف أي أهداف في بولندا، وأبدت استعدادها للتشاور مع وارسو بشأن الطائرات “المسيّرة المزعومة”.

في حين صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، لاحقاً بأن “أكثر من 10 طائرات مسيرة روسية كانت متورطة”.

من جهته قال يواكيم بترليخ، سفير ألمانيا السابق لدى الناتو، إن روسيا أقدمت على ما وصفه بـ”اختبار”، قبيل بدء مناوراتها العسكرية المشتركة مع بيلاروس، وذلك لمعرفة كيفية رد بولندا والحلف”.

وأوضح بترليخ وهو مستشار الأمن القومي الألماني الأسبق لـ”الشرق”، أن بولندا تعاملت مع الموقف بشكل طبيعي من خلال “إطلاق مقاتلاتها، من طرازي F-18، وF-35، لاعتراض هذه المسيّرات، نظراً لعدم وضوح وجهتها أو ما إذا كانت مسلّحة أم لا، وبالتالي كان من الطبيعي إسقاطها”.

وأشار إلى أن “هذا الحدث دفع بولندا، إلى طلب عقد مشاورات داخل مجلس الناتو”، مؤكداً أن ذلك “إجراء طبيعي ولا علاقة له بالمادة 5 الخاصة بالرد العسكري المشترك”.

“الغرب يريد تجنب الفخ”

وأضاف بترليخ أن “عدداً من الدول الأعضاء عززت الدفاعات الجوية البولندية”، واصفاً  هذا الأمر بـ”الطبيعي في مثل هذه الظروف”، وفي موازاة ذلك، لفت إلى أن “الغرب لا يريد أي تصعيد في هذا السياق”.

واعتبر أن “ما جرى هو جزء من سلسلة اختبارات دائمة تقوم بها روسيا، بهدف الاستفزاز وانتظار رد فعل خاطئ من الغرب”، موضحاً أن “الرد الخاطئ، على سبيل المثال، كان سيكون شن هجوم مضاد من جانب الناتو على مواقع إطلاق تلك المسيّرات والصواريخ”. 

وتابع: “العالم الغربي لم يفعل ذلك، ولم ينجرّ إلى الفخ، فهذه مجرد واحدة من المحاولات المتكررة التي تقوم بها روسيا لإدماج الغرب بشكل مباشر في الحرب الدائرة في أوكرانيا”، مضيفاً: “هذه هي فكرة الروس.. لكنها فكرة سيئة بالنسبة لهم، والغرب لن يقع في هذا الفخ”.

عملية “الحارس الشرقي”

قال نيكولاس ويليامز، المسؤول السابق في حلف الناتو، إن نشر قوات إضافية للحلف في بولندا لا يشكل تصعيداً، بل هو تحرك دفاعي ورادع بحت، مؤكداً أن عملية “الحارس الشرقي” كافية لجعل روسيا أكثر حذراً وحيطة.

وأضاف لـ”الشرق”، أن “الروس سينظرون إلى أي تعزيز للجناح الشرقي للناتو باعتباره تهديداً لهم، ومن المتوقع أن يتخذوا إجراءات مضادة عبر تعزيز حدودهم وتسليط الضوء على قدراتهم النووية”.

أما الجنرال دومينيك ترانكان، وهو القائد السابق للبعثة العسكرية الفرنسية لدى الناتو والأمم المتحدة، فقال إن “النشر الجديد لقوات الناتو في بولندا يمثل خطوة دفاعية ورادعة وليست تصعيداً”.

وأضاف أن “الأوروبيين قادرون على الرد على مواجهة مباشرة مع روسيا بالوسائل المتاحة حالياً، إلا أنهم بحاجة إلى زيادة مستوى جاهزيتهم بشكل أكبر”.

وأوضح ترانكان لـ”الشرق”، أن “روسيا تسعى من خلال تحركاتها إلى تخويف الأوروبيين الذين لا يرغبون في الحرب”، وأشار إلى أن “الأدوات الأوروبية ليست في حالة تأهب فوري وبعدد كافٍ، إذ تم رفع الجاهزية لكنها لا تزال تحتاج إلى المزيد من التطوير”.

من جهته، قال باتريك بيوري (وهو محلل سابق في البعثة البريطانية لدى حلف الناتو) لـ”الشرق”، إن “نشر القوات الإضافية للناتو داخل بولندا ليس تصعيداً، بل هو إجراء دفاعي رادع”، وتابع: “هذه القوات موجودة داخل الأراضي البولندية، وليست مصطفة على الحدود مباشرة مع روسيا، لذا يعتبر تحركاً مبرراً داخلياً”.

الناتو والدعم الأميركي

وبشأن جاهزية الدول الأوروبية داخل الناتو، قال نيكولاس وليامز، إن “الأوروبيين يفتقرون إلى هيكل عسكري مستقل يمكنهم من العمل دون الولايات المتحدة”، كما أنهم “يفتقرون إلى بعض القدرات الأساسية للعمليات العسكرية الحديثة، مثل الدفاع الجوي، والاتصالات الفضائية، والاستخبارات التقنية”.

وأردف ويليامز: “حين كنت مسؤولاً عن تطوير العلاقات بين القيادة العسكرية للناتو والاتحاد الأوروبي، كان هناك اتفاق على أنه في حالات الطوارئ، قد تتمكن أوروبا من التحرك بشكل مستقل عن الولايات المتحدة”، لكنه لفت إلى أنه على الأرجح “لن تقدم الجيوش الأوروبية على هذه المخاطرة بسبب نقص القدرات الأساسية”.

وفي السياق نفسه، قال ترانكان إن “السبب الأساسي لعدم جاهزية أوروبا الكاملة حالياً هو أننا لسنا في حالة حرب فعلية”، لكنه لفت إلى أن “أوروبا تؤهل نفسها للاستعداد لأي حرب محتملة في ظل التهديدات الروسية”.

 وتابع: “حالياً أوروبا قادرة على الردع مقارنة بالقدرات الروسية، لكنها لا تزال بحاجة إلى دعم أميركي متواصل، باعتباره عامل تفوق حاسم”، وأكد أن “عملية الحارس الشرقي كافية لردع أي تهور روسي”.

أما باتريك بيوري، فقال إن “القوى الجوية الأوروبية تتفوق على روسيا، لكنها قد تستنفد مواردها سريعاً، لذلك تحتاج إلى تعزيز قاعدة صناعاتها العسكرية وزيادة مخزونها الحربي”.

وأكد أن “هناك نافذة خطرة خلال السنوات المقبلة تتطلب دعماً أميركياً مكثفاً في مجالات عدة مثل الدعم الاستخباراتي، اللوجيستي، والقيادة والسيطرة، أما في حال اضطروا للعمل منفردين فسيفعلون، لكن الأداء لن يكون على المستوى المطلوب”.

وبشأن نقاط الضعف في الدفاع الأوروبي، اختتم بيوري حديثه قائلاً: “أكبر ضعف يكمن في الانقسام السياسي داخل حلف الناتو، إذ يحاول بوتين خلق حالة تحت عتبة المادة الـ5 من ميثاق الناتو لإحداث انقسامات إزاء كيفية الرد عسكرياً، وهو ما يمثل الخطر الأكبر”. 

شاركها.