– وسيم العدوي
شهد قطاع الصرافة والحوالات المالية عقب سقوط النظام عملية إعادة تنظيم من قبل مصرف سوريا المركزي، عبر منح تراخيص جديدة لشركات ومكاتب صرافة، في محاولة لاستعادة السيطرة على سوق القطع الأجنبي وتضييق الخناق على السوق السوداء.
وأثار إعلان المركزي، في آب الماضي، منح تراخيص لـ40 شركة صرافة، مخاوف واسعة بين أصحاب شركات صرافة مرخصة سابقًا، عبروا عن خشيتهم من استحواذ الشركات الجديدة على الكتلة الكبرى من القطع الأجنبي، فيما اعتبر آخرون أن كثرة شركات الصرافة حالة صحية تؤدي إلى إنهاء الاحتكار والتحكم بكتلة القطع الأجنبي.
تراخيص المركزي توزعت على قائمتين، الأولى تضم 14 شركة ومكتب صرافة مرخصة ومسجلة أصولًا، والثانية ضمت 26 شركة حصلت على ترخيص مبدئي، كانت وما زالت تعمل في مناطق الشمال السوري (المحرر سابقًا).
لاستطلاع آراء مالكي شركات الصرافة والحوالات حول التراخيص الممنوحة لزيادة عددها، جال مراسل على الوسط التجاري في العاصمة السورية بالمنطقة الممتدة من الحريقة إلى ساحة المحافظة وصولًا عبر شارع 29 أيار إلى السبع بحرات حيث مقر مصرف سوريا المركزي ووزارة المالية السورية.
اعتبر بعض من استطلعت آراءهم أن من المبكر الحكم على تجربة زيادة عدد الشركات، بينما أبدى آخرون امتعاضهم من وجود هذا الكم الكبير من الشركات، فيما رفض قسم كبير التصريح عن تفاصيل أعمال شركاتهم.
حوالات بـ2.5 مليار دولار سنويًا
قبل سقوط النظام، كان حجم الحوالات الخارجية السنوية يتراوح ما بين مليارين و2.5 مليار دولار، بحسب ما صرح به أحد “شيوخ كار” الصرافة، كما يطلق عليه في السوق، وهو من مالكي شركات الصرافة المرخصة منذ ما قبل 2010.
ولا تتعدى الحصة السوقية من الحجم الكلي للعملة الصعبة المتداولة يوميًا بالنسبة لشركات الصرافة المرخصة (40 شركة) 30%، قال المصدر الذي تحفظ على نشر اسمه لحساسية عمله، فيما تستحوذ المكاتب غير المرخصة على نحو 70% من التداول اليومي للقطع الأجنبي، مما يعكس هيمنة واضحة للسوق السوداء.
ويرى أنه رغم قدرة الشركات المرخصة الكبيرة على التعامل مع الحوالات الخارجية والتحويلات البنكية، فإن الهيمنة على السوق المحلية والمضاربة هي للمكاتب غير المرخصة.
غياب الرقابة وتضارب جهات الإشراف
من أبرز سلبيات الترخيص لـ26 شركة صرافة جديدة، قال “شيخ الكار”، إن هذه الشركات كانت سابقًا تخضع لـ”الحكومة المؤقتة” أو حكومة “الإنقاذ” ومرخصة من قبلها، ثم انتقل ترخيصها إلى “المركزي”، ما يخلق تضاربًا في الجهة الإشرافية الرقابية القانونية عليها، وربما يسمح لها بارتكاب مخالفات في السوق المحلية لتحقيق أرباح إضافية دون رقيب، بحسب تعبيره.
وأشار إلى أن دخول شركات من مناطق “الشمال المحرر” (سابقًا) خلق حالة من الفوضى في الأسواق لتعدد سعر صرف الدولار، والمضاربات الحاصلة بين الشركات الجديدة بعضها ببعض.
استطلعت آراء خبيرين اقتصاديين وأكاديميين، وناقشت معهما القضايا المتصلة بالصرافة والحوالات المالية، لتقييم أثرها الاقتصادي على الأسواق.
تعزيز التنافس
خبير الإدارة المالية والتدقيق البنكي الدكتور علي محمد، قدم قراءة متفائلة عمومًا حول الوضع الراهن لشركات الصرافة والحوالات، واعتبر خطوة “المركزي” بزيادة عدد هذه الشركات مؤشرًا إيجابيًا يعزز التنافس ويمنع الاحتكار.
وقال إن ذلك يؤدي إلى تنويع الخدمات وزيادة جودتها، ويمنح الفرصة لشركات جديدة لتقديم خدمات متميزة، لأن وجودها يقلص من هيمنة السوق السوداء، ويوسع الخيارات أمام المواطنين.
ويتفق مع ذلك الأكاديمي المختص بالاقتصاد المالي والنقدي الدكتور ياسر المشعل، بأن التراخيص الجديدة تسهم في تنظيم السوق، ولكن مع التحذير من عودة السوق السوداء إذا لم تكن الأسعار واقعية.
ويرى المشعل أن زيادة الشركات ضرورة، معتبرًا في الوقت ذاته أن التوزيع لهذه الشركات غير متوازن، مما يهدد بتركز القوة الاقتصادية في مناطق محددة.
السوق السوداء والرقابة
التوسع في ترخيص الشركات يقلل من السوق السوداء ويزيد من الشفافية، إذا ترافق برقابة فعالة، قال خبير الإدارة المالية والتدقيق البنكي الدكتور علي محمد، وهذا يُعتبر أحد الأهداف الرئيسة من الترخيص، وذلك يعني أن الكتلة النقدية المتمثلة بالقطع الأجنبي ستكون موزعة بين عدد أكبر من الشركات، مما يقلل من هيمنة الشركات الكبرى على السوق.
وأضاف الخبير أنه يمكن للشركات المرخصة أن تسحب جزءًا كبيرًا من العملاء الذين كانوا يتعاملون مع السوق غير الرسمية، مما يحد من عمليات المضاربة.
وكشف أنه منذ حوالي الشهر تم إلغاء ترخيص ثلاث شركات صرافة موجودة في السوق من قبل “المركزي”، بسبب ارتكاب مخالفات.
وأكد الدكتور محمد أهمية دور مصرف سوريا المركزي في مراقبة سوق الصرف، فهو يرى أن الرقابة الفعالة تتطلب زيادة في الكوادر البشرية والفنية لدى البنك المركزي، ويجب أن تشمل جميع الشركات والمكاتب المرخصة، إذ إن الرقابة على مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ستكون عنصرًا أساسيًا في ضبط السوق.
وهو ما أشار إليه الأكاديمي المختص بالاقتصاد المالي والنقدي الدكتور ياسر المشعل، بأن الشركات المرخصة الجديدة يمكن أن تقلص من السوق السوداء، وزيادتها ضرورة اقتصادية، لكن فقط إذا قدمت أسعار صرف مرنة قريبة من السوق غير الرسمية وسهّلت إجراءات التصريف، مركزًا على أن سوء الرقابة يمكن أن يخلق ثغرات للاستغلال والفساد.
المشعل يرى أيضًا أن زيادة الشركات قد تسهم في زيادة الفوضى إذا لم يتم تحديد رقابة صارمة على الأسعار والشروط، مؤكدًا أنه لا يمكن القضاء على السوق السوداء بشكل كامل، بل يمكن فقط تقليص تأثيرها إذا كانت الشركات المرخصة تقدم أسعارًا تنافسية وتخضع لرقابة فعالة.
هذه الرقابة تتطلب وجود نظام رقابة إلكتروني صارم مرتبط بالبنك المركزي وضرورة الالتزام بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب (AML/CFT)، وهي عملية شاملة لمواجهة الجريمة المالية، وضمان سلامة الأسواق المالية واستقرارها، بحسب المشعل.
ويرى أن عدم وجود شفافية قد يؤدي إلى استغلال السوق من قبل جهات غير رسمية، ويؤثر على قدرة البنك المركزي على إدارة السوق بفعالية، وفي حال لم تتمكن الشركات من تقديم خدمات سهلة وآمنة، فإن العملاء سيفضلون السوق السوداء كخيار أسرع وأكثر مرونة.
سعر صرف الليرة السورية
الشركات المرخصة ستكون أكثر قدرة على تحقيق استقرار سعر الصرف، إذا كانت تتبع أسعار صرف مرنة وقريبة من السوق السوداء، وفق ما ذكره الدكتور المشعل، مضيفًا أن هذا سيسهم في تقليل التلاعب بالأسعار ومنع المضاربات التي قد تضر بالليرة السورية.
كما أشار إلى أن وجود عدد أكبر من شركات الصرافة قد يسهم في استقرار السوق عبر عرض أدوات مالية متنوعة تساعد على استقرار العملة المحلية.
ويظهر هذا أيضًا من حيث إسهام زيادة عدد الشركات في استقرار سعر الصرف، وفقًا لما قاله الدكتور محمد، إذا تم ربط هذه الشركات بنظام رقابي قوي، فهو يرى أن زيادة الكفاءة في سوق الصرف ستسهم في تقليل التقلبات الحادة بسعر الليرة السورية، مع تحسين شفافية التدفقات المالية التي تصب في البنوك والشركات المرخصة.
ورغم دعمه لإعادة تنظيم القطاع، لفت الدكتور علي محمد إلى أن غياب الشفافية في إحصائيات حجم الحوالات أو حجم السوق قد يعرقل الفهم الصحيح لأداء السوق، وأكد أهمية نشر تقارير دورية من البنك المركزي ليتمكن الخبراء والمواطنون من تتبع نشاطات السوق وتقييم فعالية الشركات المرخصة.
وكشف الباحث محمد أنه لا يوجد تقدير واضح لحجم الحوالات حاليًا، لكن التقديرات في عام 2024 قبل سقوط النظام، تشير إلى أنها كانت يوميًا بحدود ثلاثة إلى سبعة ملايين دولار وسطيًا، ترتفع في آخر الشهر وفي الأعياد الدينية (المسيحية والإسلامية)، وخلال شهر رمضان إلى 15 مليون دولار يوميًا، أي أن حجم الحوالات السنوية يبلغ نحو 2.5 مليار دولار.
وتشير التقديرات لحجم سوق صرافة العملات الأجنبية في دمشق وحلب يوميًا إلى أنه يستحوذ على نحو 3.5 مليون دولار من سوق الصرف.
وحول انعدام الشفافية العملياتية المالية، أشار الدكتور المشعل إلى أن الفساد قد يصبح من أخطر القضايا إذا لم يكن هناك نظام رقابي صارم، فوجود شركات صرافة غير شفافة قد تكون واجهة لجهات غير رسمية، مما يؤدي إلى تكرار أخطاء السوق السوداء، مثل غسل الأموال أو تمويل الأنشطة غير المشروعة.
الانتشار الجغرافي لشركات الصرافة
العدد الكلي لشركات الصرافة في سوريا (ما بين الترخيص النهائي والمبدئي) هو عدد مناسب نسبيًا، لكن الدكتور محمد أشار إلى أهمية التوزيع الجغرافي للشركات لضمان توفر الخدمة في جميع المناطق، وأوضح أن توزيع الشركات لا يجب أن يكون متركزًا في مدينتي دمشق وحلب فقط، بل يجب أن يشمل مناطق أخرى مثل دير الزور والرقة لضمان العدالة الاقتصادية.
وهو أيضًا ما ينتقده الدكتور المشعل بأن تركّز شركات الصرافة بدمشق والشمال السوري، يؤدي إلى اختلالات اقتصادية تصب في مصلحة المناطق الكبرى، بينما تعاني المناطق الأخرى من نقص في الخدمات المالية، ولذلك يجب على الدولة أن تسعى لخلق توازن جغرافي بين المناطق لضمان تلبية احتياجات جميع المواطنين.
مرتبط
المصدر: عنب بلدي