كان تشارلي كيرك من أبرز الوجوه الإعلامية في صفوف المحافظين المسيحيين المؤثرين في الولايات المتحدة، كما كان ناشطاً فاعلاً ومنظماً بارزاً داخل الحزب الجمهوري. اتسم بشبابه وامتلاكه قدرة لافتة على الخطابة. وقد حقق برنامجه التلفزيوني، الذي يُعرض عبر شبكة مسيحية أميركية، إلى جانب البودكاست الذي يقدمه، انتشاراً واسعاً، إذ كان يصل يومياً إلى ملايين المتابعين، ما جعله يحظى بإشادة كبيرة في الأوساط المحافظة.

فهم كيرك حالة الإحباط الاقتصادي التي يعيشها الشباب الأميركيون، وكان يزعم دائماً أن الحزب الديمقراطي يدعم المهاجرين بهدف إزاحة المواطنين الأميركيين من سوق العمل. كما عبّر بصراحة عن حالة اليأس التي يعانيها كثيرون من أبناء الطبقة الوسطى، في ظل اقتصاد عصري لا يمنحهم القدرة على امتلاك منزل، أو تأسيس أسرة.

وقد أثارت مواقفه المتعلقة بالعلاقات العرقية، والهويات الجنسية، والدور التقليدي للمرأة، والحرية الاقتصادية، والإسلام، والقومية الأميركية، استياءً واسعاً في صفوف اليسار الأميركي.

اغتيال تشارلي كيرك

لعب كيرك دوراً محورياً في انتخابات عام 2024؛ إذ قام بتعبئة الشباب من خلال منظمته “تيرنينج بوينت” لحشد التأييد لترمب ومواجهة الأجندة الاقتصادية والاجتماعية التي يتبناها الحزب الديمقراطي.

وقد أظهرت نتائج استطلاع (إيه بي فوتكاست)، الذي أجراه موقع “أسوشييتد بريس”، أن 47% من الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً صوّتوا لصالح ترمب، مقارنة بنسبة 36% في انتخابات 2020، وهو ارتفاع كبير يُعزى في جزء كبير منه إلى جهود كيرك.

وعقب اغتياله في 10 سبتمبر، صرّح رئيس الحزب الجمهوري في ولاية جورجيا بأن كيرك ومنظمته كانا “عاملاً حاسماً” في فوز حملة ترمب في جورجيا خلال انتخابات 2024. (كنتُ قد شرحت استراتيجية كيرك وتكتيكاته في مقال نُشر في موقع “المجلة” بتاريخ 2 أكتوبر 2024).

ومن اللافت أيضاً أن تشارلي كيرك كان يُعرف بحبه للحوار وتواصله المباشر مع الناس، وقد ألهم عدداً كبيراً من الشباب الذين يشغلون اليوم مناصب بارزة داخل الحزب الجمهوري. فقد ساعد نائب الرئيس فانس في بناء علاقة مع دونالد ترمب مطلع عام 2024، كما شجّع كارولين ليفيت، المتحدثة الحالية باسم البيت الأبيض، على خوض الانتخابات للكونجرس أولاً، ثم الالتحاق بإدارة ترمب لاحقاً. ووفقا لآنا بولينا لونا، النائبة عن ولاية فلوريدا، كان كيرك هو من شجعها على خوض الانتخابات، والفوز بالمقعد الذي تشغله اليوم في الكونجرس.

من ترمب إلى لونا، عبّر السياسيون عن تقديرهم العميق له، واصفين إياه بالوطني والبطل. وكانت لونا من بين 15 عضواً جمهوريا في الكونجرس طالبوا بإقامة تمثال له داخل مبنى الكابيتول.

أما أبرز وجوه اليمين على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل مايك والش الذي يتابعه 3.8 مليون شخص على منصة “إكس”، فقد وصفوا كيرك بالصديق، وبأنه من أبرز المدافعين عن المسيحية والقيم المحافظة.

وبعد اغتياله، قامت المؤثرة اليمينية البارزة لورا لوومر، التي يتابعها 1.7 مليون شخص على منصة “إكس”، بحذف منشورات سابقة من الصيف الماضي كانت قد وصفته فيها بـ”الخائن”، بسبب معارضته لترمب فيما يتعلق بالهجمات على إيران، ومطالبته بالكشف الكامل عن ملفات فضيحة إبستين الجنسية. وبدلاً عنها، نشرت لوومر تغريدات تعبر فيها عن حزنها لاغتياله.

ردٌّ جمهوري ضد اليسار؟

لم يحتفل أي مسؤول في الحزب الديمقراطي بشكل علني باغتيال كيرك، بل عبّر عدد من قادة الحزب، من حاكم كاليفورنيا جافين نيوسوم، الذي يتصدر استطلاعات الرأي الأولية لنيل ترشيح الحزب في انتخابات 2028، إلى بيرني ساندرز، مروراً بزعماء الكونجرس حكيم جيفريز وتشارلز شومر، عن أسفهم الشديد. وأجمعوا على إدانة الجريمة بوصفها تهديداً مباشراً لحرية التعبير في الولايات المتحدة.

في المقابل، شدّد بعض الديمقراطيين على أن الحادثة تؤكد مجدداً على حجم انتشار الأسلحة في البلاد، ووجّهوا انتقادات إلى كيرك لتبريره العدد الكبير من جرائم القتل باعتباره ثمناً لحق دستوري في امتلاك السلاح. فيما ركّز البعض الآخر، مثل جيفريز وشومر، على أهمية تحقيق الوحدة الوطنية في أعقاب هذه الجريمة المأساوية.

قوبلت الدعوات إلى الوحدة الوطنية برفض واضح من جانب عدد من الأصوات المحافظة والمسؤولين الجمهوريين. ففي 11 سبتمبر، كتب مات والش على منصة “إكس” أن “اليسار يريد لنا الموت”، مضيفاً أن الوقت ليس مناسباً للمصالحة بين اليمين واليسار في الولايات المتحدة. وختم بالقول: “نحن نقاتل قوى شيطانية من أعماق الجحيم”.

وبُعيد اغتيال كيرك، نشرت لورا لوومر تغريدة اعتبرت فيها أن اليسار الأميركي يشكل تهديداً للأمن القومي، داعية إدارة ترمب إلى إغلاق وملاحقة جميع المنظمات اليسارية.

ومن اللافت أن لوومر نسبت لنفسها الفضل في قيام ترمب بطرد عدد من المسؤولين في مجلس الأمن القومي. كما حمّل نائب رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، وهو ديمقراطي، لوومر المسؤولية عن إلغاء اجتماعه، الأسبوع الماضي، مع رئيس إحدى وكالات الاستخبارات، وهو ما تباهت به لاحقاً عبر منصة “إكس”، مؤكدة أنها كانت السبب فعلاً وراء إلغاء اللقاء.

كما ارتفعت داخل أروقة الكونجرس أصوات تطالب بالانتقام؛ فقد حمّلت النائبة الجمهورية نانسي ميس، من ولاية كارولينا الجنوبية، إلى جانب عدد من الجمهوريين، الحزب الديمقراطي مسؤولية اغتيال كيرك. ورفضت ميس بشدة المقارنة التي أطلقها عدد من الديمقراطيين بين اغتيال كيرك ومقتل رئيس مجلس شيوخ ولاية مينيسوتا الديمقراطي في يونيو الماضي على يد أحد أنصار ترمب.

وفي مساء 10 سبتمبر، دعا رئيس مجلس النواب، مايكل جونسون، الأعضاء للوقوف دقيقة صمت والصلاة على روح تشارلي كيرك، إلا أن الديمقراطيين اعترضوا، مشيرين إلى أن جونسون لم يطلب الوقوف للصلاة على أرواح ضحايا إطلاق النار في مدرسة بكولورادو في اليوم نفسه. وتسببت هذه الحادثة في جدال واسع بين عدد من الأعضاء، كشف عن عمق المرارة والانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين داخل الكونجرس.

ولن يُسهم توقيف مشتبه به في الجريمة، بتاريخ 12 سبتمبر، في تهدئة موجة الغضب المتصاعدة. فقد حذر عدد من كتّاب اليسار السياسي الأميركي، مثل بن بورجيس وميجان داي من مجلة “جاكوبين”، في 11 سبتمبر، من أن رد فعل المحافظين قد يتسبب في أضرار جسيمة تلحق باليسار.

وكان الجمهوري كلاي هيجينز، النائب عن ولاية لويزيانا، قد تعهّد في 10 سبتمبر باستخدام نفوذ الكونجرس للضغط على شركات التواصل الاجتماعي من أجل حظر أي شخص احتفل باغتيال تشارلي كيرك، بشكل دائم، من المنصات، إلى جانب المطالبة بإلغاء رخص القيادة والتراخيص التجارية الخاصة بهم.

لكن خبراء قانونيين شككوا في إمكانية تطبيق مثل هذه الإجراءات ضمن إطار الحماية الدستورية لحرية التعبير. ومع ذلك، بدأ عدد من المسؤولين الجمهوريين، سواء على مستوى الولايات، أو المستوى الوطني، باتخاذ خطوات انتقامية ضد موظفين فيدراليين وحكوميين أعربوا عن تأييدهم، أو إشادتهم باغتيال كيرك.

فقد حذّرت وزارة التعليم في ولاية فلوريدا، بإشراف الحاكم الجمهوري رون ديسانتيس، من أنها ستتخذ إجراءات تأديبية بحق المعلمين الذين نشروا رسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي تُعبّر عن تأييدهم لمقتل كيرك. وفي 11 سبتمبر، علّقت إحدى المقاطعات في فلوريدا عمل معلمة، بسبب تعليقاتها على تلك المنصات، وشرعت الولاية في التحقيق مع عدد من المعلمين الآخرين.

وأعلنت حكومة فلوريدا أن للمعلمين الحق في التعبير عن آرائهم بموجب الدستور، إلا أن هذا الحق ليس مطلقاً، ويتوجب عليهم الحفاظ على “ثقة الطلاب والعائلات التي يخدمونها”. ويمنح هذا التفسير، عملياً، العائلات والطلاب قدرة غير مباشرة على تقييد حرية التعبير الخاصة بالمعلمين.

في الوقت نفسه، أعلن مسؤولون في وزارة الدفاع الأميركية أنهم سيحققون مع أي عنصر في الجيش ثبت تأييده لاغتيال كيرك، وأن المخالفين سيتعرضون للعقوبة. وقد خرق وزير الدفاع، بيت هيجسيث، تقليداً أميركياً راسخاً يقضي بإبقاء الجيش بعيداً عن السياسة، عندما امتدح كيرك خلال حديثه إلى مجموعة من الجنود في 10 سبتمبر.

وبالمثل، أفادت وزارة الأمن الداخلي أنها أوقفت موظفاً بعد اكتشاف منشورات له على وسائل التواصل الاجتماعي أبدى فيها تأييده لعملية الاغتيال. كما حذّر نائب وزير الخارجية، كريستوفر لاندو، من أن الوزارة ستراجع منشورات المتقدمين للحصول على تأشيرات والمهاجرين، وأنها ستطرد أي أجنبي، بمن فيهم حاملو الإقامات الدائمة، إذا تبيّن أنهم أشادوا بمقتل كيرك. بدورها، دعت لورا لوومر متابعيها عبر منصة “إكس” إلى تزويدها بأمثلة على منشورات تحتفي باغتيال كيرك، لرفعها إلى البيت الأبيض وعدد من الوزراء في واشنطن.

ولم تقتصر موجة الردود الانتقامية على العاصمة الفيدرالية وحكومات الولايات؛ إذ أقدمت فرق رياضية أميركية، وجامعات، ودوائر بلدية، على طرد موظفين، بسبب تصريحاتهم العلنية بشأن اغتيال كيرك. كما أقال مجلس جمعية سماسرة العقارات في لاس فيجاس رئيسه على خلفية تصريحات وصفها المجلس بأنها “مثيرة للانقسام”. وللمرة الأولى في الذاكرة المعاصرة، يُشجَّع الأميركيون علناً على التجسس على بعضهم البعض، بسبب مواقفهم السياسية الشخصية.

قيود على حرية التعبير

شنّ الرئيس ترمب في 10 سبتمبر هجوماً حاداً على ما وصفه بـ”اليسار الراديكالي”، معتبراً أن خطابه هو المسؤول عن اغتيال تشارلي كيرك. وتعهّد باتخاذ إجراءات ضد “مرتكبي عنف اليسار الراديكالي والمنظمات التي تمولهم وتدعمهم”، من دون أن يسمي أفراداً أو جهات محددة.

وفي 12 سبتمبر، نقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن مصادر في البيت الأبيض توقعات بأن تمارس الإدارة ضغوطاً على من يستخدمون خطابات عنيفة ضد ترمب وحلفائه، مرجّحة أن تسعى إلى تحديد المعلمين وأساتذة الجامعات الذين ينتقدون كيرك والتيار المحافظ، تمهيداً لمعاقبتهم. كما تعهّد كبير موظفي البيت الأبيض، في مقابلة إذاعية بتاريخ 11 سبتمبر، باستهداف “جماعات الكراهية”، مؤكداً في الوقت ذاته احترام حرية التعبير.

وحتى الآن، لم يوضح الجمهوريون نوعية الخطاب الذي يمكن اعتباره راديكالياً يسارياً. ويُذكر أن إدارة بايدن كانت قد اشتكت بدورها، في عامي 2022 و2023، من الخطابات المتطرفة الصادرة حينها عن التيار المحافظ. وقد حثّ بعض مسؤوليها شركات التواصل الاجتماعي، خلال اجتماعات مغلقة، على فرض رقابة على بعض التعليقات.

ورداً على ذلك، سعى المحافظون الجمهوريون إلى تمرير قانون يمنع الحكومة من التدخل في حرية التعبير، وكان من أبرز مؤيديه عام 2023 النائب كلاي هيجينز والنائبة نانسي ميس، اللذان يتصدران اليوم الدعوات المحافظة للحد من خطاب اليسار. إلا أن المشروع فشل في مجلس الشيوخ الذي كان حينها تحت سيطرة الحزب الديمقراطي.

يشعر الأميركيون بقلق متزايد من احتمال اندلاع مزيد من أعمال العنف السياسي في أي لحظة. ففي 11 سبتمبر، دعا ترمب أنصاره إلى تجنّب العنف، وحتى مات والش، الذي وصف اليساريين بـ”الشياطين”، شدد على أن العنف المشروع الوحيد يجب أن يُمارس من خلال المحاكم التي تعاقب المذنبين بعد محاكمات عادلة.

ويكمن التحدي أمام المسؤولين الأمنيين والشخصيات السياسية في أن الخطابات المتطرفة، سواء عبر وصف شخصية ما بأنها “شيطان” أو “شخص فاشي”، باتت تدفع بعض الأفراد إلى اتخاذ قرارات متطرفة. وتُفيد التقارير الأولية بأن والدي المشتبه به في اغتيال كيرك من الجمهوريين، غير أن أفكاراً مناهضة للفاشية يُعتقد أنها كانت الدافع الأساسي وراء جريمته.

وقال سبنسر كوكس، حاكم ولاية يوتا، التي يسيطر عليها الحزب الجمهوري وشهدت وقوع الجريمة، في مؤتمر صحافي بتاريخ 12 سبتمبر، إن على الولايات المتحدة أن تبتعد عن مسار العنف السياسي، مشدداً على أن إنهاء هذا المسار لن يكون ممكناً من دون احترام حرية التعبير والنقاش الحر أولاً.

وقد استذكر كوكس التأثير العميق الذي تركه تشارلي كيرك على الشباب، فدعاهم إلى تجاوز سياسة الغضب الأميركية، والمساهمة في بناء ثقافة سياسية جديدة. وجاءت تصريحاته في محاولة لتعزيز الوحدة السياسية في البلاد، على نحو لم تحققه كلمات ترمب في 10 سبتمبر؛ إذ تواجه الديمقراطية الأميركية والوحدة الوطنية اليوم أقسى اختبار لها منذ اندلاع الحرب الأهلية قبل 175 عاماً، في ظل تحديات متصاعدة تهدد قدرة المجتمع الأميركي على صون حرية التعبير والحد من تصاعد العنف السياسي في المرحلة المقبلة.

هذا المحتوى من مجلة “المجلة”.

شاركها.