– كريستينا الشماس

يحتفل المسيحيون في سوريا، في 14 من أيلول من كل عام، بعيد “الصليب المقدس”، وهو مناسبة ذات جذور تاريخية ودينية، لكنها تحولت إلى تقليد اجتماعي وثقافي يتجاوز الانتماءات، في مشهد يعكس تنوع المجتمع السوري وتماسكه.

تعود قصة عيد “الصليب” إلى روايات تاريخية دينية مرتبطة باكتشاف الصليب الذي صُلب عليه السيد المسيح، لكن في الوعي المحلي اكتسبت المناسبة أبعادًا أوسع، فالأهالي في صيدنايا ومعلولا، وهما من أبرز البلدات المسيحية في ريف دمشق، احتفظوا بطقوس خاصة أعطت للعيد نكهته السورية المميزة، حتى باتت المنطقتان مقصدًا للزوار من مختلف المحافظات، إضافة إلى تهافت السياح الأجانب، الذين يبحثون عن تجربة ثقافية ولديهم فضول في التعرف إلى تلك البلدتين.

طقوس العيد

بات إشعال النيران من الطقوس الرئيسة للاحتفال بعيد “الصليب”، الذي يرتبط بحدث تاريخي مرتبط بالعثور على صليب السيد المسيح في عام 335، فكانت فرق الجنود المكلفة بالبحث عن الصليب، اتفقت على إشارة إضرام النار في حال وجدت إحداها عود الصليب.

يبدأ العيد في بلدة صيدنايا الجبلية والشهيرة بوجود دير السيدة العريق فيها، قبل يومه الرسمي، حين توقد النيران على أسطح المنازل والتلال المحيطة.

مشهد النيران الذي يضيء سماء البلدة لا يحمل فقط دلالة رمزية دينية، بل أصبح تقليدًا اجتماعيًا يجمع السكان والزوار.

قالت مريم حداد، من أبناء صيدنايا، ل، إن النار ليست مجرد شعلة، بل إنها الرابط الذي يجعل البلدة كلها أسرة واحدة، فكل بيت يضيء شعلة ليقول إنه حاضر ومشارك في العيد.

وأضافت مريم أن الأطفال يركضون في الأحياء حاملين مشاعل صغيرة، والشباب يتجمعون في حلقات دبكة حول النيران، فيما يردد الكبار الأغاني التراثية، والألعاب النارية لا تتوقف طيلة فترة الاحتفال.

ورغم أن السنوات الأخيرة حملت الكثير من الأزمات، ظلت هذه الطقوس صامدة، وكأنها وسيلة للتشبث بالحياة والذاكرة، بحسب مريم.

وفي معلولا، البلدة التي لا تزال تحتفظ بلغة السيد المسيح الآرامية حتى اليوم، فإن العيد يتحوّل إلى مهرجان شعبي يمتد على مدار يومين، فحلقات الدبكة تنتشر في ساحات الأديرة لتختلط أصوات الطبول بالأجراس، والصلاة بالهتاف.

ولكن اقتصر العيد هذا العام في بلدة معلولا على إقامة الصلوات والقداديس، دون وجود احتفالات أخرى، تجنبًا لوقوع أي حوادث أمنية.

وكانت معلولا تستقبل مئات الزوار من داخل سوريا وخارجها، وتتحول المناسبة إلى لقاء للأسر التي فرقتها الهجرة، فكثير من المغتربين يحرصون على العودة في هذه الفترة بالذات، ليجدوا في العيد فرصة لاستعادة الطفولة والذكريات، ولتعريف أبنائهم بتراث ظل حاضرًا رغم التحولات.

جورج صليبي رجل ستيني، هاجر منذ عشر سنوات مع عائلته إلى أستراليا، اعتاد زيارة سوريا ليشارك باحتفالات عيد “الصليب”.

“العيد في سوريا له نكهته الخاصة التي لا نجدها في الخارج، فمهما ابتعدنا أو هاجرنا، نحاول أن نعود في هذه الأيام، لنحتفل مع العائلة ونبني أجمل الذكريات حتى تهون علينا غربتنا”، قال جورج.

مشاركة تتجاوز الطوائف

من أبرز ما يميز عيد “الصليب” في سوريا، مشاركة أبناء ديانات وطوائف أخرى في الاحتفالات، الذين يقصدون بلدتي صيدنايا أو معلولا، للتعبير عن التضامن والمشاركة في الفرح.

سامر الحلبي، شاب من دمشق اعتاد زيارة معلولا في هذه المناسبة، وصف العيد بأنه لا يعرف حدودًا، مضيفًا، “نأتي لنشارك أصدقاءنا فرحتهم ونشعر أنه عيدنا أيضًا، فبلدة معلولا تفتح أبوابها للجميع”.

تحدثت ليلى عثمان، من ريف دمشق، ل، أنها تذهب مع عائلتها وأطفالها كل عام ليشاركوا أبناء الطائفة المسيحية فرحتهم.

وأضافت ليلي، “أريد أن يتعلم أبنائي أن الأعياد هنا تخص الجميع، وأن الفرح لا يقسم.

واعتبر جورج صليبي أن مشاركة أبناء الديانات الأخرى لأعيادهم، أصبحت رمزًا للتآخي في وقت كثرت فيه الانقسامات.

ويرى جورج أن الأعياد الدينية باتت تعبر عن الأرض والهوية السورية المشتركة، وأن مثل هذه المناسبات يمكن أن تكون جسورًا لا حواجز بين أبناء سوريا.

أبعاد سياحية واقتصادية

أسهمت هذه الاحتفالات في تعزيز مكانة صيدنايا ومعلولا كوجهتين للسياحة الداخلية والدينية، فتشهد الفنادق والمطاعم ازدحامًا ملحوظًا خلال أيام العيد، وتزدهر الحركة التجارية في الأسواق.

جوليانا منصور، طالبة في كلية السياحة وشاركت في عدد من المجموعات السياحية مع زوار وسياح أجانب لبلدتي معلولا وصيدنايا، قالت ل، إن مثل هذا العيد يشكل فرصة لإعادة تقديم صورة جميلة ومشرقة عن سوريا.

وأشارت جوليانا إلى أن احتفاظ السوريين بأعيادهم وطقوسهم، نقل للسياح وخاصة الأجانب، بأن الواقع هنا ليس فقط كما يُنقل في الأخبار على أنه مليء بالخوف والانقسامات، بل هناك أيضًا حياة واحتفالات.

ونوهت إلى أن عيد “الصليب” أسهم على مدار أعوام بتحسن الحياة الاقتصادية في البلدتين حتى في ظل سنوات الحرب، فكان هناك سياح أجانب يترددون لبلدتي معلولا وصيدنايا، بغية التعرف إلى تراث البلدتين وإلى طبيعة الحياة فيهما، وزيارة الأديرة.

المصدر: عنب بلدي

شاركها.