أفادت دراسة حديثة أجرتها جامعة ستانفورد، بأن التحول نصف السنوي بين التوقيت الصيفي والتوقيت القياسي يؤدي إلى عواقب صحية مجتمعية سلبية.
وقدمت الدراسة لأول مرة، بيانات علمية واسعة النطاق وصورة دقيقة عن التأثيرات الصحية طويلة المدى للتوقيات الزمنية الثلاث؛ التوقيت القياسي الدائم، والتوقيت الصيفي الدائم، والنظام الحالي القائم على التبديل الموسمي.
وهناك أدلة علمية كثيرة تشير إلى أن هذا التلاعب الدوري بالزمن يترك آثاراً أعمق وأخطر على صحة الأفراد والمجتمعات.
واعتاد الأميركيون مع دقات الساعة الثانية فجر الأحد الثاني من شهر مارس سنوياً، على واقع جديد يتمثل في ساعة مفقودة من نومهم، وانطلاقة مشوشة لفترة ربما تطول، ولا يقتصر الأمر على بعض التثاؤب أو أكواب إضافية من القهوة، ثم ما يلبث المشهد أن يتكرر في الخريف، حين تعود عقارب الساعة إلى الوراء 60 دقيقة، ليبدأ الحديث مجدداً عن جدوى هذه الممارسة التي ظهرت قبل أكثر من قرن بهدف ترشيد الطاقة والتنظيم الاجتماعي.
وعلى الرغم من أن الأميركيين اعتادوا هذه الطقوس الزمنية سنوياً، إلا أن الاستياء العام يتصاعد؛ إذ تظهر استطلاعات الرأي أن الغالبية الساحقة لم تعد راضية عن استمرار “اللعبة الزمنية” مرتين كل عام، ويرى البعض أن تغيير التوقيت نظام مربك وغير مبرر في زمن المصابيح الموفرة للطاقة والشبكات الذكية، بينما يذهب آخرون أبعد من ذلك ويرون أن النظام يهدد الصحة العامة ويجب إلغاؤه.
وفي 12 أبريل الماضي، طلب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الكونجرس، جعل التوقيت الصيفي دائماً وإلغاء تغيير التوقيت مرتين سنوياً.
جاءت مطالبة ترمب بعد يوم من عقد المشرعين أول جلسة استماع منذ أكثر من 3 سنوات من الجدل المستمر بشأن ما إذا كان ينبغي جعل التوقيت الصيفي دائماً، أم الإبقاء على التوقيت العادي طوال العام.
وقال ترمب: “يتعين على مجلسي النواب والشيوخ العمل بجد من أجل المزيد من ضوء النهار في نهاية المطاف”.
أجرى الباحثون في الدراسة الجديدة التي نشرتها دورية الأكاديمية الوطنية للعلوم، محاكاة لتأثير التوقيتات الثلاث على الإيقاع اليومي للبشر، وهو ذلك النظام الداخلي الدقيق الذي يضبط دورات النوم والاستيقاظ وعمليات التمثيل الغذائي والمناعة.
وتوصلت الدراسة إلى أن نظام تغيير التوقيت مرتين سنوياً، هو الأسوأ دون منازع، وأن الأضرار لا تقتصر على فقدان ساعة نوم عند تقديم الساعة في الربيع، بل تتراكم على مدار العام لتؤثر في ملايين الأميركيين عبر أمراض السمنة والسكتة الدماغية واضطرابات أخرى.
ولفهم المشكلة بشكل أعمق، لا بد من التوقف عند مفهوم الإيقاع اليومي نفسه، فالساعة الداخلية لا تسير تمامًا على 24 ساعة، بل تحتاج إلى إشارات ضوئية متكررة لتبقى متزامنة مع دوران الأرض، إذ يعيد ضوء الصباح ضبطها للأمام، بينما ضوء المساء يؤخرها، ويعني أي خلل في هذا التوازن اضطراباً في النوم، وضعفاً في جهاز المناعة، وزيادة في أخطار الأمراض المزمنة.
وأظهرت الدراسة أن الأميركيين، لو عاشوا وفق التوقيت القياسي الدائم، فإنهم سيتعرّضون لضوء الصباح بشكل أكبر، ما ينعكس إيجابًا على ضبط إيقاعات أجسادهم، متوقعة انخفاض السمنة بمعدل 2.6 مليون حالة سنوياً، وتجنب 300 ألف حالة سكتة دماغية.
ورغم عيوب التوقيت الصيفي الدائم، إلا أنه أفضل من التغيير الموسمي، إذ يقلل من هذه الأخطار بنحو الثلثين.
وعلى الرغم من التوصيات الطبية المتكررة من هيئات مثل الأكاديمية الأميركية لطب النوم، والمؤسسة الوطنية للنوم، إلا أن الكونجرس ظل متردداً، تحت ضغط جماعات المصالح الاقتصادية التي ترى في المساء الطويل فرصة للربح.
وما يميز الدراسة الجديدة هو أنها تقدم بيانات قابلة للقياس بدلاً من الجدل النظري. فلأول مرة يمكن القول إن اختيار السياسة الزمنية ليس مجرد ذوق اجتماعي، بل قرار له أثر مباشر على الصحة العامة، بما يعادل ملايين الحالات المرضية.
ويعترف الباحثون بوجود قيود؛ فالنماذج اعتمدت على افتراضات مثالية لروتين النوم والتعرض للضوء، في حين أن الواقع أكثر فوضوية؛ فالناس يسهرون أمام الشاشات، ويعملون في نوبات ليلية، ويقضون معظم يومهم في أماكن مغلقة، وهو ما قد يضاعف من “العبء الإيقاعي” الفعلي.
تأتي هذه النتائج في لحظة فارقة على مستوى العالم؛ ففي أوروبا، تقرر إلغاء تغيير التوقيت منذ سنوات، لكن تطبيق القرار ظل يتعثر بسبب خلافات بين الدول بشأن التوقيت الأمثل، وفي الولايات المتحدة، قدم مشرعون عام 2018 مشروعات قوانين لاعتماد التوقيت الصيفي الدائم، لكنها لا تزال عالقة بين لجان الكونجرس.
لكن بعد نشر هذه الدراسة ربما يجد صانعو القرار أنفسهم أمام “ورقة علمية” جديدة تضعهم تحت ضغط لتغيير السياسات.
توفير الطاقة.. ونزيف الصحة
منذ تبني التوقيت الصيفي لأول مرة في الولايات المتحدة عام 1918 خلال الحرب العالمية الأولى، كان الهدف المعلن هو تقليل استهلاك الطاقة عبر إطالة ساعات النهار العملية، كانت المصابيح الكهربائية آنذاك تلتهم كميات كبيرة من الطاقة، وكان من المنطقي أن يؤدي تأخير الغروب ساعة إضافية إلى تقليل استخدام الإضاءة الصناعية، لكن بعد مرور قرن، ومع تغير أنماط الحياة وتطور التكنولوجيا، أصبح السؤال؛ هل لا زال هذا المبرر قائمًا؟ أم أن “التوفير” في الطاقة يقابله “نزيف” في الصحة؟
أثبتت التجارب المتكررة على مر العقود أن القضية أكثر تعقيداً مما يبدو، ففي 1974، جربت الولايات المتحدة التوقيت الصيفي الدائم على مدار العام، وسرعان ما انتفض أولياء الأمور خوفًا على أطفالهم الذين يذهبون للمدارس في ظلام دامس خلال أشهر الشتاء، واضطرت الحكومة إلى التراجع، ورغم ذلك، لم تنته الفكرة؛ بل جرى تمديد فترة التوقيت الصيفي تدريجياً حتى بات يغطي 7 أشهر في العام منذ 2007.
وفي كل مرة يطرح مقترح جديد أمام الكونجرس لاعتماد التوقيت الصيفي الدائم، يتجدّد الجدل الشعبي والإعلامي بشأن الفوائد والأضرار.
وحتى وقت قريب، كانت النقاشات تميل إلى الطابع الأيديولوجي أو الاقتصادي أكثر من كونها علمية، إذ يرفع مؤيدو التوقيت الصيفي الدائم شعار “مساء أطول يعني حياة أجمل، ومزيد من التسوق، والرياضة في الهواء الطلق، وانخفاض معدلات الجريمة مع وجود ضوء طبيعي أطول”.
في المقابل، يستند دعاة التوقيت القياسي الدائم إلى منطق أن “الصباح هو مفتاح اليوم الصحي” إذ يرتبط التعرض لضوء الفجر بضبط الساعة البيولوجية للجسم، وتحسين المزاج والأداء. لكن لا يملك أي من الفريقين بيانات كافية تثبت أيهما أصوب.
التوقيت الصيفي.. من الحرب إلى الاقتصاد
بدأت فكرة “اللعب بالوقت” كحل اقتصادي وعسكري قبل أن تتحول إلى قضية اجتماعية وسياسية وصحية، إذ ينسب إلى المفكر الأميركي بنجامين فرانكلين، أنه صاحب أول تلميح ساخر لفكرة الاستفادة من ضوء النهار، ففي عام 1784، كتب مقالاً في صحيفة فرنسية اقترح فيه أن يستيقظ الباريسيون أبكر لتوفير الشموع، ولم يكن يقصد “تغيير الساعة” بقدر ما كان يلمح إلى سلوكيات الناس، لكن المقال كثيراً ما يذكر على أنه الشرارة الأولى.
أما التطبيق العملي فجاء بعد أكثر من قرن، وتحديداً في مطلع القرن العشرين حين طرح البريطاني ويليام ويليت، فكرة تقديم الساعة صيفاً لتوفير الطاقة وتشجيع النشاط في الهواء الطلق، ورغم أنه لم ينجح في إقناع البرلمان البريطاني أثناء حياته، إلا أن الحرب العالمية الأولى قلبت الموازين
في عام 1916، تبنت ألمانيا والنمسا والمجر، التوقيت الصيفي رسمياً، بهدف توفير الفحم لمجهودها الحربي، وسرعان ما تبعتها بريطانيا، ثم الولايات المتحدة في عام 1918، بدعوى أن كل ساعة إضافية من ضوء النهار تعني استهلاكا أقل للفحم في الإضاءة والتدفئة، وبالتالي المزيد من الوقود للجيوش.
لكن بعد انتهاء الحرب، لم يعد هناك حماس كبير للاستمرار في هذا النظام الذي بدا للناس أنه مربك، وجرى إلغاؤه في معظم الدول، إذ تركت أميركا للمدن والولايات تطبيق قراراتها الخاصة؛ وهو ما تسبب في فوضى شديدة بالسكك الحديدية وشركات النقل، التي عانت من اختلاف التوقيت بين مدينة وأخرى.
ماذا يقول العلم عن تغيير التوقيت؟
- دراسة تفيد بأن معدلات الإصابة بالأزمات القلبية ترتفع بنسبة 24% في يوم الاثنين الذي يلي تقديم الساعة في الربيع داخل الولايات المتحدة، بينما في الخريف، عند إرجاع الساعة للوراء، تنخفض الحالات بنسبة 21%.
- في السويد، تحليل بيانات أكثر من 20 عامًا يظهر أن معدل النوبات القلبية يرتفع بشكل ملحوظ خلال الأسبوع الأول بعد تطبيق التوقيت الصيفي، خصوصًا بين من تزيد أعمارهم عن 65 عامًا.
- هيئة السلامة المرورية الأميركية تقدر أن عدد الحوادث المميتة يرتفع بنسبة 6% في الأسبوع الذي يلي تقديم الساعة.
- دراسة كندية حللت بيانات الحوادث في أونتاريو على مدى 10 سنوات، وخلصت إلى أن خطر حوادث الطرق يزيد بنسبة 8% في يوم الاثنين بعد التوقيت الصيفي.
- دراسة أسترالية وجدت أن معدلات الانتحار بين الرجال ارتفعت بنسبة 7% في الأسبوع الأول بعد التحول للتوقيت الصيفي.
- في الدنمارك، حلل باحثون بيانات تخص أكثر من 185 ألف مريض بالاكتئاب (1995–2012) ووجدوا أن معدل الدخول للمستشفيات بسبب الاكتئاب ارتفع بنسبة 11% بعد تأخير الساعة في الخريف.
- دراسة أميركية على طلاب المدارس الثانوية وجدت أن فقدان ساعة نوم بسبب التوقيت الصيفي يترجم إلى انخفاض في الأداء الدراسي في الرياضيات والقراءة بنسبة 2–3%.
- الجمعية الأميركية لطب النوم تؤكد أن الأمر لا يتوقف عند “ليلة أو ليلتين” من التعب، بل إن بعض الأشخاص يحتاجون أسبوعين كاملين للتأقلم مع التوقيت الجديد.
- دراسة أوروبية شملت 7 دول وجدت أن الأشخاص ذوي “الساعة البيولوجية الليلية” أو المعتادون على السهر هم الأكثر تضرراً، ويعانون من اضطراب في النوم ربما يستمر 3 أسابيع بعد تغيير الساعة.
فوضى التوقيت من رحلات الطيران إلى سوق الأسهم
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، عاد النقاش بقوة؛ وأعلن الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في 1942 ما عُرف باسم “توقيت الحرب” إذ اعتمدت الولايات المتحدة التوقيت الصيفي الدائم طوال فترة الحرب، واستمر الأمر حتى 1945، وبعدها عادت الفوضى من جديد؛ كل ولاية بل وكل مدينة تختار توقيتها، وكانت خريطة أميركا تبدو وكأنها فسيفساء زمنية.
وكان هذا الوضع كارثياً لشبكات التلفزيون الوطنية، وخطوط الطيران، وسوق الأسهم. إذ لم يكن مقبولا أن تبث البرامج أو تفتح البورصات في أوقات مختلفة لمجرد أن كل ولاية تعتمد نظاما خاصًا بها.
وفي مواجهة هذه الفوضى، أقر الكونجرس عام 1966 قانون الوقت الموحد الذي وضع لأول مرة قواعد فيدرالية واضحة جاء فيه أن الولايات المتحدة تعتمد التوقيت الصيفي على المستوى الوطني من يوم الأحد الأول في أبريل وحتى الأحد الأخير من أكتوبر، وهو ما سمح للولايات بالانسحاب من التوقيت الصيفي كليا – كما فعلت أريزونا وهاواي – لكن لم يعد مسموحاً لكل مدينة أو مقاطعة أن تغير الوقت كما تشاء.
وعلى الرغم من أن هذا القانون لم ينه الجدل، إلا أنه وضع إطارا للاستقرار، ومنذ ذلك الوقت، باتت مسألة التوقيت الصيفي موضوعاً متكرراً على طاولة الكونجرس، يمدد أو يختصر تبعاً للأزمات الاقتصادية أو الضغوط السياسية.
جدل التوقيت ينتقل إلى أوروبا
لم يكن الجدل حكراً على أميركا، إذ تبنت أوروبا التوقيت الصيفي منذ الحرب العالمية الأولى، لكنها شهدت موجات من التراجع، ففي التسعينيات، جرى توحيد النظام داخل الاتحاد الأوروبي لتفادي الفوضى بين الدول، لكن في السنوات الأخيرة، تصاعدت المعارضة الشعبية، وفي 2018 صوت البرلمان الأوروبي على إلغاء تغيير التوقيت، تاركاً للدول حرية اختيار التوقيت الدائم، ومع ذلك، لم يدخل القرار حيز التنفيذ حتى الآن بسبب صعوبات في التنسيق.
وجربت روسيا التوقيت الصيفي الدائم في 2011، لكنها تراجعت بعد سنوات قليلة بسبب اعتراضات شعبية مرتبطة بالظلام الطويل في الصباح؛ وتبنت أستراليا وبعض دول أميركا اللاتينية التوقيت الصيفي لفترات، لكن أغلبها تخلى عنه لغياب الفوائد الملموسة.
الساعة البيولوجية.. ارتباك زمني
الزمن ليس مجرد عقارب تتحرك فوق قرص ساعة، أو أرقام تتغير على شاشة الهاتف، لكنه يسكن في أعماق الإنسان بشدة وفي كل خلية من خلاياه، إذ تعمل الساعة البيولوجية على ضبط الأنفاس، وحرارة الجسد، والنوم واليقظة، وهو ما يطلق عليه العلماء الإيقاع اليومي وهو عبارة عن شبكة متكاملة من العمليات الحيوية التي تتكرر خلال 24 ساعة.
وتبدأ المشكلة حين يحدث انفصال بين “الساعة الداخلية” و”الوقت الخارجي”، فالجسد مثلاً يرسل إشارات بالنعاس الساعة 10 مساء، لكن هناك ضرورة لليقظة حتى منتصف الليل بسبب العمل، أو أن الشمس تشرق 6 صباحاً، بينما الساعة البيولوجية تقول إنها 5 صباحاً فقط، فهنا يبدأ الارتباك؛ يظن الدماغ أن الظلام ما زال سائدا، بينما الحياة الاجتماعية تفرض الاستيقاظ.
هذا الارتباك ليس مجرد شعور عابر، إذ تكشف الأبحاث الحديثة أن أي اضطراب في التوافق بين الساعة البيولوجية والوقت الاجتماعي يسمى “الاضطراب الزمني الاجتماعي” وهو يشبه إلى حد كبير تجربة السفر المستمر عبر مناطق زمنية مختلفة، إذ يعاني الإنسان من إرهاق، وضعف في التركيز، واضطراب في الشهية. إلا أن المسافر يحتاج أياماً ليعود إلى توازنه، بينما من يعيش تحت نظام توقيت مضطرب يظل في صراع يومي طويل الأمد.
إذا كان البالغون يعانون من تغير الساعة، فإن الأطفال والمراهقين هم الأكثر عرضة للاضطراب، إذ تميل الساعة البيولوجية لدى المراهقين بطبيعتها إلى النوم متأخراً والاستيقاظ متأخراً، وعندما يفرض عليهم الاستيقاظ في السادسة صباحاً للذهاب إلى المدرسة، بينما ساعتهم الداخلية تقول إنه ما يزال “ليلاً”، فإن النتيجة تكون نقصاً مزمناً في النوم.
وتشير الأبحاث إلى أن هذا الحرمان يرفع معدلات القلق والاكتئاب، ويؤثر على الأداء الدراسي، لذلك لم يعد النقاش بشأن التوقيت الصيفي مجرد “اقتصاد وطاقة”، بل أصبح ملفاً صحياً وإنسانياً بامتياز.