بدر بن خميس الظفري

@waladjameel

 

يُطِلُّ الانتحار في تاريخ الثقافة بوصفه ظاهرة إنسانية معقّدة تتشابك فيها الدلالات النفسية والاجتماعية والفلسفية، وقد عرّفه عالمُ الاجتماعِ الفرنسي، إميل دوركهايم، في كتابه “الانتحار”، بأنه كلّ حالة موت تنجم مباشرة أو غير مباشرة عن فعل إيجابي أو سلبي تُنفّذه الضحية وهي واعية بنتيجته.

هذا التعريف يُزيح النظر عن المستوى البيولوجي، ويدعو إلى تأمل القرار الأخير وما يحمله من صراعٍ مع الألم والمعنى والحرية، كما يثبت فرادة الظاهرة في المجال الإنساني؛ حيث تتحول غريزة البقاء إلى سؤالٍ أخلاقي ووجودي.

أمّا في مرآة الأدب، فإن هذه الأسئلة تتكثّف، فتقوم النصوص الإبداعية بتفكيك دوافع المنتحر، وتتوغّل في طبقاته الخفيّة من اليأس والرغبة في الخلاص واستعادة السيطرة على الذات. ومنذ التراجيديا الإغريقية حتى الرواية الحديثة والسينما، ظلّ الانتحار موضوعًا شاخصًا تتبدّل رموزه بتبدّل الأزمنة، تتمثل في رفضٍ حاسم لواقع مهين، أو احتجاجٍ على قهرٍ يستعصي تغييره، أو سعيٍ إلى حريةٍ تُنتزع حين تضيق الحياة بأصحابها. والأعمال الإبداعية تتيح زاوية نظرٍ حسّاسة تُقيم بين الداخل والخارج، بين جرح الفرد وصدى المجتمع.

ومن بين الأجناس الأكثر اقترابًا من هذه الظاهرة يبرز الشعر والسرد الروائي؛ فاللغة المكثّفة تمنح الشعر قدرةً على التقاط لحظة الانكسار في صورةٍ واحدة، بينما يتيح السرد الروائي الغوص البطيء في تطوّر الفكرة من همسٍ داخلي إلى قرارٍ نهائي. بهذه الأدوات يرسم الأدباء خريطةً للهاوية، ويضعون إشاراتٍ على الطرق الفرعية التي تقود إليها ومنها.

في التجربة الغربية تقدّم سيلفيا بلاث، الشاعرةُ والروائيةُ الأمريكية، مثالًا لافتًا على تحويل العذاب إلى فن. وفي قصيدتها “السيدة لازاروس” تجعل فعل الفناء استعارةً لإيقاف الألم وإعادة امتلاك الجسد والقرار، وتتجاور فيها مفردات البعث والاندثار، فتبدو محاولة الانتحار تمرينًا على استعادة السيرة من مجتمع يطحن الهوية ويُسكت صوت المرأة. هنا يتبدّى الموت بوصفه فنًا مريرًا يُجسّد رغبة في الهدوء، بينما الحياة تضجّ بضجيج المعاناة؛ “.. الموتُ فنّ..”، وتغدو القصيدة سجلًا لرحلة وعيٍ يتلمّس خلاصه بين الرماد والقيامة: “.. ومن الرماد أنهض..”، وتذكيرًا بأن التعبير الفني يمنح الألم لغةً تحول دون ذوبانه.

أما فيودور دوستويفسكي، الروائيُّ الروسيُّ الكبير، فيغوص في روايتيه “الجريمة والعقاب” و”الأبله” إلى تخوم الانتحار الرمزي. روديون راسكولنيكوف، الطالبُ السابق والبطلُ المحوري في “الجريمة والعقاب”، لا يُنهي حياته، مع ذلك يتخبّط في هاويةٍ نفسية تجعل الاعتراف والعقاب طريقًا وحيدًا للخلاص؛ “.. أنا الذي قتلتُ المرابيةَ العجوز…”. الفعل الجُرمي هُنا يتحوّل عبئًا أخلاقيًا ينهش الذات حتى تبدو فكرة الفناء مخرجًا من عذاب الضمير؛ “.. لقد قتلتُ نفسي لا هي!”.

وفي رواية “الأبله” تتبدّى انهيارات النفس في مجتمعٍ فاسد، فتُطِلُّ أشكال تدمير الذات بوصفها موتًا مُفكَّرًا فيه للروح حين تعجز عن التكيّف مع واقع لا يُطاق؛ ويقول إيبوليت في مناجاته المحدِّدة لإرادته إزاء الفناء: “لقد حَدَّت الطبيعةُ نشاطي بثلاثة أسابيع؛ حتى غدا الانتحارُ الشيءَ الوحيدَ الذي أستطيع أن أبدأهُ وأنهيَه بإرادتي الحرّة”. بهذه العدسة يعيد دوستويفسكي تعريف الظاهرة من الرصاصة الأخيرة إلى مساحة صراعٍ وجوديّ، وهو يذكّر بأن “.. الألمُ والمعاناةُ حتميّان دائمًا لذهنٍ كبيرٍ وقلبٍ عميق..”.

وتقترح رواية “التائهون” للروائيِّ اللبنانيّ الفرنسيّ، أمين معلوف، وجهًا مختلفًا للفكرة؛ لا جثّة هنا؛ بل غُربة مُزمنة تشبه موتًا بطيئًا للذات. شلّة أصدقاء مزّقتهم الحرب والمهجر، يبحثون عن مرافئ هوية تتصدّع كلما ظنّوا أنّهم عثروا عليها. هنا يُطالعنا قوله المكثّف عن خسارة الأفق: “نتعزّى عن اختفاءِ الماضي بسهولة؛ أمّا اختفاءُ المستقبلِ فلا نتعافى منه”. هذا الفقد المستمر يُقرأ بوصفه انطفاءً لمعنى الحياة عندما تخذلنا الذاكرة واللغة والانتماء، فيقترب السرد من حافة انتحارٍ رمزيّ يطفئ الروح ولا يريق دمًا، وتتحوّل الحيرة إلى سؤالٍ معلّق عن وطنٍ مُحتمل وذاتٍ تبحث عن مرساها؛ “.. لكلِّ إنسانٍ حقُّ أن يرحل؛ وعلى بلادِه أن تُقنِعَهُ بالبقاء.”

وفي المشهد العربي يحضر المثال الأكثر وجعًا مع الشاعرِ اللبنانيّ الحداثيّ، خليل حاوي؛ ففي صباح 6 يونيو 1982 دوّى صدى رصاصته في بيروت المقتحمة، فصار فعله جرحًا في الذاكرة الثقافية. قُرئ الانتحار يومها بوصفه احتجاجًا يائسًا على زمن الهزيمة وصيحةً أخيرة تستنفر الضمير، وتتماهى مع نبرة قصيدته الساخطة: “ماتتِ البلوى ومُتنا من سنين”، و”سوف تبقى مثلما كانت ليالي الميّتين”. وقد توقّف المفكّرُ البحرينيّ، محمد جابر الأنصاري، عند هذه الدلالة في كتابه “انتحار المثقفين العرب”، مؤكّدًا المعنى العميق للفعل حين يتجاوز الجسد: “الانتحارُ بمعناه العميقِ ليس قتلًا للجسمِ بالضرورة؛ فللانتحارِ أشكالٌ وألوانٌ أخطر”، فأسند الفعل إلى تراجيديا مثقفٍ تهشّم حلمه بالتغيير أمام جدار السياسة والواقع، ورأى فيه علامةً على اختناق المجال العام وانسداد الأفق.

ويمرّ الأثر في سيرة الشاعرِ السوريّ البارز نزار قباني من باب الفاجعة العائلية؛ فانتحار شقيقته “وصال” ترك بصمة غائرة في عالمه الشعري، فاشتدّ حسّاسًا تجاه قسوة الأعراف حين تُصادر الحب والاختيار؛ يلمّح مرارًا إلى ذلك بصرخة مقتضبة: “خرافةُ حرّيةِ النساءِ في بلادِنا”. تتسرّب هذه الحساسية إلى صور وكنايات تلامس حافة الفناء عندما تُغلَق الأبواب في وجه القلب، فيرتسم في الخلفية سؤال الحرية الشخصية ومعناها داخل مجتمع يزجر الرغبات ويشدّ القيود، وتتشكل لغةٌ تُدافع عن حقّ الفرد في اختيار مصيره.

بهذه الأمثلة يتبدّى الانتحار رمزًا متعدد الوجوه: رفضًا قاطعًا لواقع مهين، أو تمرّدًا على قيودٍ اجتماعية وسياسية وأخلاقية، أو بحثًا عن سكينةٍ من ألمٍ لا يهدأ. ما يجمعها أنّها تردّ الفعل إلى جذره الإنساني، إلى الحاجة الملحّة لمعنى يُمكّن الروح من احتمال الوجود. هنا يتجلّى دور الأدب عموما، والشعر والرواية خصوصا؛ فهو يمنح القارئ قدرةً على تعاطفٍ واعٍ يقترب من الهاوية دون أن يدفع إليها، ويفتح مسارب إدراكٍ أعمق مما تمنحه التقارير العلمية الجافة.

 

شاركها.