سلّط نشر إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب ما لا يقل عن 7 سفن حربية وغواصة نووية في جنوب البحر الكاريبي قرب سواحل فنزويلا، الضوء على اتساع الانقسام داخل أميركا اللاتينية، إلى جانب مؤشرات على عزل متزايد لحكومة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو.
وتماشياً مع سياسة البيت الأبيض، أعلنت دول مثل الأرجنتين وباراجواي وجويانا منظمة “كارتل دي لوس سولس” ككيان “إرهابي”، وهي الجهة التي تتهم الولايات المتحدة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بقيادتها، رغم عدم وجود إجماع بين الخبراء على صحة هذه العلاقة.
وفي الوقت الذي يربط فيه البيت الأبيض نشر القطع البحرية الأميركية في الكاريبي بمكافحة “كارتيلات” المخدرات في أميركا اللاتينية، يرى مادورو أن الهدف الحقيقي لدونالد ترمب من هذه الخطوة هو الترويج لتغيير النظام في فنزويلا، بهدف الاستيلاء على مواردها الطبيعية.
وتُصنّف فنزويلاً على أنها صاحبة أكبر احتياطي نفط في العالم، إذ يُقدّر بما يزيد عن 300 مليار برميل.
صمت نسبي لليسار اللاتيني
ويؤكد مادورو، أن الوضع ليس “توتراً” كما وصفته وسائل الإعلام، بل هو “عدوان” من قبل الولايات المتحدة على بلاده.
وعلى الرغم من الخطر الذي تُشكّله “العسكرة” في المنطقة، خاصة بعد إعلان ترمب عن ثلاث هجمات على الأقل استهدفت قوارب يُشتبه في أنها تقلّ مهربين فنزويليين، لم تصدر إدانات قوية لهذه العمليات، بما لا يُحقق تعبئة كافية لدول أميركا اللاتينية، التي يقود العديد منها زعماء يساريون، وعلى رأسهم رئيس البرازيل لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، ورئيس تشيلي جابرييل بوريك.
واختار البلدان (البرازيل وتشيلي) الخروج ببيان مشترك، من خلال مجموعة دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (Celac)، يعربان فيه عن “القلق العميق إزاء التعبئة العسكرية الخارجية الأخيرة في المنطقة”، والتذكير بإعلان المنطقة “منطقة سلام” والالتزام بمعاهدة حظر الأسلحة النووية في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، في إشارة إلى تواجد الغواصة الأميركية التي تعمل بالطاقة النووية.
ومع ذلك، ونظراً للخلافات بين العديد من دول تلك المنطقة مع مادورو، يبدو أن بعض أعضاء مجموعة (Celac) غير موافقين على الوثيقة.
وباستثناء البيان المشترك، “لم تصدر تشيلي بياناً منفرداً” يعلق على هذه الأحداث، في الوقت الذي استشهد فيه الرئيس البرازيلي إيناسيو لولا دا سيلفا، زعيم أكبر دولة في أميركا اللاتينية، معاهدة عام 1968، والتي تنادي بجعل المنطقة، ومعها منطقة البحر الكاريبي، خالية من الأسلحة النووية.
واعتبر الرئيس البرازيلي في القمة الافتراضية الأخيرة لمجموعة “بريكس” أن وجود القوات المسلحة لأقوى دولة في العالم في البحر الكاريبي، هو عامل توتر يتعارض مع الدعوة السلمية للمنطقة.
كولومبيا وكوبا.. أعلى نبرةً
وجاءت الإدانة الأشد في المنطقة من الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو، الذي ندد بشكل خاص بالهجوم الذي شُنّ في وقت سابق من الشهر على قارب يُزعم أنه كان محملاً بالمخدرات ومصدره فنزويلا، وهو الهجوم الذي تقول إدارة ترمب إنها قضت خلاله على 11 “إرهابياً”.
وكتب الزعيم الكولومبي على منصة “إكس”، بعد نشر ترمب للفيديو: “إذا كان هذا صحيحاً، فهي جريمة قتل في أي مكان في العالم”، مضيفاً: “لعقود، ألقينا القبض على مدنيين ينقلون المخدرات دون قتلهم”.
وفي السياق نفسه، أدان ميجيل دياز كانيل، السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي الكوبي ورئيس الجمهورية، الهجوم الأخير على قارب الصيد الفنزويلي، الذي نفذته القوات الأميركية المنتشرة في المنطقة منذ أغسطس الماضي في جنوب البحر الكاريبي، وذلك يوم الاثنين الماضي.
وقال دياز، في رسالة نُشرت على منصة “إكس”، إن رئيس الدولة وصف هذا العمل بأنه غير قانوني، ومخالف للقانون الدولي، و”استفزاز جبان وخطير”.
وجدد التأكيد على أن أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي تُعدّ “منطقة سلام”، وفقًا لإعلان موحّد لرؤساء دول المنطقة في “هافانا” عام 2014.
تجزئة الإقليم تعرقل توافق
ويعتقد وزير الخارجية التشيلي السابق ماريانو فرنانديز، أن “الصمت”، وردود الفعل “المعتدلة” يعودان إلى تجزئة المنطقة التي لم تعد قادرة على تحقيق توافق، وإلى أن الوضع في البحر الكاريبي لم يصل بعد إلى حدّ التدهور.
وقال فرنانديز في تصريح لـ”الشرق”، إن “من الصعب جداً إدانة وجود عسكري في المياه الدولية لمكافحة تهريب المخدرات”.
وأضاف: “وكما هو الحال في أي نظام ديكتاتوري، يستغل مادورو ما في وسعه من هذا الاستفزاز الأميركي للدفاع عن نفسه داخلياً، مستدعياً الميليشيات والجيش”، حسب تعبيره.
ويشير فرنانديز إلى دعوة مادورو للسكان للاستعداد للدفاع عن البلاد من خلال الانخراط في “الميليشيا البوليفارية”، (وهي فرع مدني من القوات المسلحة)، أنشأه الرئيس السابق هوجو تشافيز لتكملة عمل الجيش.
في نهاية الأسبوع الماضي، فتحت السلطات الفنزويلية أكثر من 300 مقر عسكري في أنحاء البلاد أبوابها، لتعليم المدنيين استخدام الأسلحة، استعداداً لـ”عدوان” محتمل.
وتجري التدريبات لهؤلاء المتطوعين، فيما يحاول الفنزويليون تحديد ما هو صحيح وما هو خاطئ بشأن الوجود العسكري الأميركي بالقرب من ساحل البلاد، وسط رسائل لا حصر لها على وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة.
“صعوبات” مادورو الداخلية
وتقول نيرلاي أندرادي، عضوة اللجنة السياسية للحزب الشيوعي الفنزويلي: “هناك ضغط هائل على المواطنين بسبب سيل الرسائل ومقاطع الفيديو والمنشورات التي تتحدث عن غزو وشيك”.
ووفقاً لحديث أندرادي لـ”الشرق”، فإن الحزب الاشتراكي الفنزويلي الموَّحد الحاكم “يحاول، دون جدوى، استغلال الوضع لإعادة التواصل مع السكان”، معتبرة أن “مادورو سيجد صعوبة في تحقيق الوحدة الوطنية في ظل خضوع السكان لأجور لا تغطي تكاليف المعيشة، وفي ظل وجود العشرات من الناشطين السياسيين والاجتماعيين والنقابيين المسجونين تعسفياً”.
وترى أندرادي أن التعبئة العسكرية الأميركية تمثل تصعيداً في مستوى التدخل، مرجحة أن “تؤدي إلى عواقب وخيمة على شعوب المنطقة، وخصوصاً على الشعب الفنزويلي”.
ومع ذلك، فإنّها تعتبر أن غياب الإدانة القوية للتحركات الأميركية يعكس عزلة مادورو على الساحة الدولية، مشيرة إلى أن “لا أحد يُريد الخلط بين رفضه التدخل الأميركي، وبين دعم مادورو”.
ويقول مصدر رفيع المستوى في الدبلوماسية البرازيلية، طالباً عدم الكشف عن هويته، لـ”الشرق”، إن الحذر في التحدث علناً عن الوضع يعود إلى المشاكل التي تواجهها البلاد حالياً مع الإدارة الأميركية.
ويزعم ترمب أن الرئيس البرازيلي اليميني السابق جايير بولسونارو، (الذي حُكم عليه مؤخراً بالسجن لأكثر من 27 عاماً بتهمة محاولة الانقلاب على فوز لولا دا سيلفا بعد انتخابات عام 2022) يُلاحق ظلماً من قِبل النظام القضائي البرازيلي، وفرض رسوماً جمركية بنسبة 50% على منتجات البلاد.
وقال ترمب، في رسالة علنية وجّهها إلى نظيره البرازيلي ونشرها على منصّة “تروث سوشيال” في 10 يوليو، إن فرض الرسوم المعلن اعتباراً من 1 أغسطس يأتي بشكلٍ منفصل عن أي رسوم قطاعية أخرى، غير أنّ الأمر التنفيذي صدر في 30 يوليو ودخل حيّز التنفيذ في 6 أغسطس 2025.
واعتبر أن محاكمة بولسونارو تمثل “فضيحة دولية”، ووصفها بأنها (مطاردة ساحرات) سياسية يجب أن تنتهي فوراً، مشيراً إلى أنه عرف بولسونارو شخصياً ويحترمه، كما فعل العديد من قادة الدول.
البرازيل تفضّل اختيار معاركها
وتعليقاً على العلاقات مع الولايات المتحدة، وعلى عدم صدور إدانة قوية من حكومة بلاده تجاه العسكرة الأميركية في البحر الكاريبي، قال المصدر الدبلوماسي البرازيلي رفيع المستوى لـ”الشرق”: “لدينا مشكلاتنا الخاصة، والوضع متوتر بالفعل، لذا سنختار معاركنا”.
من جهته، يرى برنابي مالاكالزا، وهو خبير أرجنتيني في القضايا الجيوسياسية والسياسة الخارجية في أميركا اللاتينية، أن سبب الحذر لا يقتصر على كون البرازيل الدولة الأكثر تضرراً من رسوم ترمب الجمركية بعد الصين، بل يشمل أيضاً اقتراب الانتخابات الرئاسية التي قد تعيد انتخاب لولا أو تُطيح به في عام 2026.
ويرى مالاكالزا أن البرازيل “لا تتحدث باسم المنطقة”، مشيراً إلى أن وضعها الداخلي “مُعقّد للغاية في ظل العملية القضائية لبولسونارو”، داعياً إلى “ضرورة تحليل تحركات لولا في سياق انتخابات العام المقبل”.
وقال إن تآكل علاقات البرازيل مع الولايات المتحدة قلل أيضاً من فرص التفاوض الدبلوماسي بين البلدين، ما دفع حكومة لولا إلى التطلع أكثر نحو آسيا ومجموعة “البريكس”.
من ناحية أخرى، يشير مالاكالزا إلى وجود مجموعة “عرقلة” بالفعل في أميركا اللاتينية، يقودها الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي، “وهي متحالفة مع ترمب”، واصفاً إياها بأنها “وكيلة” للرئيس الأميركي، وتتصرف بنوع من العداء تستغله الولايات المتحدة.
بدورها، فضلت المكسيك، الدولة المحورية الأخرى في المنطقة، عبر رئيستها اليسارية كلوديا شينباوم، عدم التدخل في هذا النزاع.
وعندما سُئلت عن التحركات الأميركية في المنطقة، قالت: “إن مبادئ عدم التدخل، والحل السلمي للنزاعات، وعدم استخدام القوة في العلاقات الدولية منصوص عليها في الدستور المكسيكي نفسه”، مؤكدة أن كل شيء يُحل بالحوار.
إلى جانب هذا التصريح، لم تُنكر الحكومة المكسيكية الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، إذ يتعين عليها أيضاً موازنة الانتقادات مع تهديدات التعريفات الجمركية التي تواجهها من إدارة ترمب.
ويصف النائب الاشتراكي الفنزويلي السابق موديستو إميليو جيريرو، الرئيسة المكسيكية، بأنها “امرأة معتدلة”، ولديها “درجة من الالتزام” نظراً لارتباط المكسيك بالمنظومة الصناعية الأميركية، وهو ما لن يسمح لها بقول أي شيء يتجاوز ما قالته بالفعل.
ويتذكر جيريرو، وهو أحد مؤسسي الحزب الحاكم في فنزويلا، (الذي تركه لاحقاً)، كيف تغير الوضع منذ عام 2012، عندما اعتُبر أن رؤساء أميركا الجنوبية أحبطوا محاولة انقلاب قامت بها الشرطة ضد الرئيس السابق رافائيل كوريا في الإكوادور.
ويوضح جيريرو، في حديثه لـ”الشرق”، أن هذا النوع من التحركات من قبل دول أميركا اللاتينية تجاه الأحداث التي تشهدها بلدان فيها “لم يعد يُرى”، مستذكراً أن ردود الفعل كانت في السابق أكثر استباقية.
وعزا هذا التغيّر إلى “اعتدال في البرامج السياسية والاقتصادية والمالية في السنوات الأخيرة، وارتباطها بالاقتصاد الأميركي، ما يجعل ردود الفعل أضعف”.