يشن الجيش الإسرائيلي حملة هدم مكثفة للمباني في مدينة غزة، وسط هجوم واسع وقصف يصفه الفلسطينيون بـ”غير المسبوق”، وذلك في إطار سعيه للسيطرة على أكبر تجمع سكاني في القطاع، ودفع السكان إلى النزوح نحو الجنوب.
وتسعى إسرائيل إلى إجبار جميع سكان مدينة غزة على النزوح إلى منطقة المواصي، جنوب القطاع، ولكن وكالات الإغاثة الدولية تشير إلى أن “الأوضاع هناك مزرية، حيث لا يوجد ما يكفي من الغذاء ولا الدواء ولا المأوى”.
وذكر تقرير لوكالة “رويترز” أن هناك مخاوف من “تهجير دائم” للفلسطينيين، بسبب عمليات الهدم الواسعة.
وقال المتحدث باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ثمين الخيطان في بيان، إن “مثل هذه الحملة المتعمدة لنقل السكان تعد تطهيراً عرقياً”.
وكان وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش قد توعد في مايو الماضي، بأن معظم قطاع غزة سوف “يدمر بالكامل” قريباً، وسيتكدس سكانه في شريط ضيق من الأرض بالقرب من الحدود مع مصر.
كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، الأسبوع الماضي، إن “غزة تحترق”، مضيفاً في تصريحات منفصلة أن “غزة ستدمر بالكامل، إذا لم تفرج حماس عن المحتجزين الإسرائيليين”.
تسوية أحياء سكنية بالأرض
سوّت القوات الإسرائيلية مناطق بالأرض في أحياء الزيتون والتفاح والشجاعية والشيخ الرضوان وغيرها. وتظهر صور الأقمار الصناعية التي راجعتها “رويترز”، الدمار الذي لحق بعشرات المباني في الشيخ الرضوان منذ أغسطس، ما تسبب في تشريد الآلاف من الفلسطينيين.
وعلى مدى الأسبوعين الماضيين، أعلن الجيش الإسرائيلي هدم ما يصل إلى 20 برجاً سكنياً في مدينة غزة.
وتمثل سياسة هدم المباني وتسوية أحياء سكنية كاملة بالأرض، أحدث مرحلة في حرب إسرائيل على غزة، حيث قتلت أكثر 65 ألف فلسطيني، وتسببت في تفشي المجاعة، وشردت معظم السكان وأجبرتهم على النزوح عدة مرات في كثير من الحالات.
وخلال هذا الأسبوع، خلص تحقيق للأمم المتحدة إلى أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.
كومة أنقاض
يروي الفلسطيني شادي سلامة الريس لـ”رويترز” رحلته مع النزوح، بعدما هدمت إسرائيل أحد الأبراج التي كان يقطن فيها مع أفراد عائلته.
وعلى مدى عقد من الزمن، ظل سلامة الريس، الموظف بأحد البنوك، يسدد قرضاً عقارياً بقيمة 93 ألف دولار لشقته في برج مشتهى شاهق الارتفاع، بأحد الأحياء الراقية في مدينة غزة.
والآن، يعيش سلامة الريس هو وأسرته في فقر مدقع بعد فرارهم من ضربة إسرائيلية هدمت المبنى في غمضة عين، ليتحول إلى كومة أنقاض وسط سحابة من الدخان والغبار.
ويمثل الهجوم الذي وقع في 5 سبتمبر على برج مشتهى المكون من 16 طابقاً، بداية حملة هدم مكثفة نفذها الجيش الإسرائيلي مستهدفاً المباني الشاهقة.
وقال الريس: “بعمري ما تخيلت إني أترك مدينة غزة لكن الانفجارات ما بتتوقف.. ما بقدر أخاطر بأطفالي ولذلك أنا بجهز أغراضي وراح أطلع على الجنوب”.
وتعهد بالبقاء في القطاع قائلاً: “لو خيروني بأي بلد في العالم ما راح أختار إلا غزة”.
قبل الحرب، اشتهر برج مشتهى في مدينة غزة بإطلالته على البحر وموقعه الملائم القريب من حديقة عامة وجامعتين.
وقال الريس إن البرج كان يؤوي في الأصل نحو 50 عائلة، لكن هذا العدد ارتفع لثلاثة أمثال خلال الأشهر القليلة الماضية بعد أن استقبل سكانه أقاربهم النازحين من أجزاء أخرى من غزة.
وانتشرت عشرات الخيام التي تؤوي المزيد من العائلات النازحة حول قاعدة البرج. ولحقت أضرار بالطوابق العليا من المبنى جراء غارات سابقة.
وقال الريس إنه في صباح الخامس من سبتمبر، تلقى أحد الجيران اتصالاً من ضابط في الجيش الإسرائيلي يطلب منه نشر الأمر بإخلاء المبنى في غضون دقائق، وإلا فإنهم “راح ينزلوا البرج فوق روسنا”.
وقال الريس، الذي كان يأمل في سداد قرضه العقاري بحلول هذا العام: “مشاعر رعب، وخوف وضياع ويأس وحيرة وألم سيطرت علينا كلنا، أنا شفت ناس بتجري حافية القدمين وناس نسيت جوالاتها، ووثائقها، أنا ما أخذت لا جوازات سفر ولا بطاقات الهوية”.
وأضاف أنهم لم يحملوا معهم شيئاً، وأن زوجته وطفليه آدم (9 سنوات) وشهد (11 سنة) نزلوا الدرج وهربوا.
ويُظهر مقطع فيديو صورته “رويترز” ما حدث بعد ذلك. سقطت قذيفتان من الجو وانفجرتا في وقت واحد تقريباً بقاعدة البرج لينهار في حوالي ست ثوان.
وتصاعد الغبار والدخان وتناثر الحطام في الشوارع وفوق خيام النازحين، الذين تفرقوا وهم يركضون ويصرخون.
وقالت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان لـ”رويترز”، إن الجيش الإسرائيلي لم يقدم أدلة تثبت أن الأبنية التي استهدفها في مدينة غزة “أهداف عسكرية مشروعة”.
وقال الريس، الذي كان رئيس اتحاد سكان المبنى، إن أسلوب الهدم ليس منطقياً، نافياً المزاعم الإسرائيلية بوجود “حماس” في البرج.
وأضاف: “كان بإمكانهم يتعاملوا مع الموضوع بطريقة ما تسبب أذى ولا خدش لأي حدا، مش يدمروا برج 16 طابقاً”.
وبعد أسبوعين قضاها مع عائلته في حي الصبرة، غادر الريس، مثل مئات الآلاف من سكان المدينة، الذين نزحوا منذ أغسطس، ونصب خيمة في دير البلح وسط قطاع غزة، الخميس.
تسريع عمليات التدمير
ذكر سكان تحدثت إليهم “رويترز” أن الجيش الإسرائيلي يدمر ما يصل إلى 12 منزلاً يومياً في أحياء الزيتون والتفاح والشجاعية.
وقدّر أمجد الشوا، رئيس شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية في غزة، أن أكثر من 65% من المباني والمنازل في مدينة غزة دمرت أو تضررت بشدة خلال الحرب.
وتظهر صور الأقمار الصناعية لعدة أحياء أضراراً جسيمة لحقت بضواحي المدينة في الأسابيع القليلة الماضية.
ووثقت منظمة “بيانات مواقع وأحداث الصراعات المسلحة” ACLED، وهي منظمة غير ربحية تجمع بيانات عن الصراعات حول العالم، أكثر من 170 واقعة هدم نفذها الجيش الإسرائيلي في مدينة غزة منذ أوائل أغسطس، معظمها من خلال تفجيرات محكومة في المناطق الشرقية، بالإضافة إلى حيي الزيتون والصبرة.
وقالت أمينة مهفار، كبيرة محللي شؤون الشرق الأوسط في ACLED لـ”رويترز”: “يبدو أن وتيرة ومدى عمليات الهدم أوسع نطاقاً مما كانت عليه في الفترات السابقة”.
وأضافت أنه “في المقابل، تم تسجيل أقل من 160 عملية هدم من هذا القبيل في مدينة غزة خلال 15 شهراً الأولى من الحرب”.
وأفاد سكان تحدثوا إلى “رويترز” أيضاً بأن القوات الإسرائيلية فجرت مركبات مسيرة عن بعد محملة بالمتفجرات في حيي الشيخ رضوان وتل الهوى، مما أدى إلى تدمير العديد من المنازل خلال الأسبوعين الماضيين.
وذكرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أنها وثقت عمليات هدم محكومة لبنية تحتية سكنية، وقالت إن “بعض الأحياء دمرت بالكامل”.
أغلب مباني غزة مدمرة
ووفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية، فإنه حتى قبل الهجوم الحالي على مدينة غزة، تضرر أو دمر ما يقرب من 80% من المباني في غزة، أي نحو 247 ألف و195 مبنى، منذ بدء الحرب.
وشمل ذلك 213 مستشفى و1029 مدرسة. وجرى جمع البيانات في يوليو الماضي.
وقالت بشرى الخالدي مسؤولة السياسات المتعلقة بغزة في منظمة “أوكسفام” الإغاثية، إن الأبراج السكنية هي أحد آخر أشكال الملاذات المتاحة، وحذرت من أن إجبار الناس على النزوح سيؤدي إلى تفاقم الاكتظاظ السكاني في الجنوب “بشكل مطرد”.
وكان طارق عبد العال (23 عاماً)، وهو طالب دراسات مالية من حي الصبرة، متردداً في مغادرة منزله مع عائلته رغم قصف المنطقة على مدى أسابيع، قائلاً إنه منهك من أوامر الإخلاء المتكررة خلال الحرب.
ولكنهم غادروا صباح 19 أغسطس فقط بعد هدم المنازل المجاورة لمنزلهم المكون من ثلاثة طوابق. وقال إنه بعد 12 ساعة فقط، دمرت غارة إسرائيلية منزل العائلة.
وذكر عبد العال لـ”رويترز”من مخيم النصيرات وسط غزة، واصفاً الأضرار الجسيمة التي لحقت بالشارع بأكمله: “يمكن لو ضلينا هاديك الليلة في البيت كان تم قتلنا.. دمروا أملنا في إننا نرجع”.