أمل بنت سيف الحميدية **
تواجه الأنظمة التعليمية في العالم تحديًا متناميًا مع تسارع التحولات التي أفرزتها الثورة الصناعية الرابعة (Industry 4.0)؛ حيث تداخلت التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والبيانات الضخمة مع أنماط العمل والحياة.
وفي هذا السياق، أصبح من الضروري إعادة النظر في النماذج التعليمية التقليدية التي تأسست منذ الثورة الصناعية الأولى والثانية، حين كان التركيز على التلقين وإنتاج مهارات متكررة تخدم الوظائف الصناعية النمطية. أما اليوم، فإن الاقتصاد العالمي يتطلب مواطنًا قادرًا على التفكير النقدي والإبداعي ويستطيع أن يتكيف مع تلك المتغيرات والعمل في بيئات متعددة الثقافات وعابرة للحدود.
لقد صاغ المنتدى الاقتصادي العالمي في تقرير مدارس المستقبل (2020) إطارًا عالميًا يُعرف بالتعليم 4.0، يحدد ثمانية تحولات رئيسة في المحتوى التعليمي وأساليب التعلم، بما يتلاءم مع متطلبات المستقبل. هذه التحولات تشمل: غرس مهارات المواطنة العالمية، وتعزيز الابتكار والإبداع، وتنمية المهارات التقنية والرقمية، إلى جانب الاهتمام بالذكاء العاطفي والمهارات الاجتماعية، وتبني التعلم الذاتي والشخصي، وتوسيع فرص التعلم الشامل والدامج، والانتقال نحو التعلم القائم على المشروعات والتعاون، وأخيرًا إرساء ثقافة التعلم مدى الحياة.
ويؤكد التقرير أن هذه التحولات ليست ترفًا فكريًا، وإنما شرط لبقاء الأنظمة التعليمية قادرة على الاستجابة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية القادمة. ومن الأمثلة العالمية المُلهمة التي أوردها التقرير “المدرسة الخضراء” في جزيرة بالي بإندونيسيا، التي جعلت الاستدامة محورًا رئيسًا في مناهجها وبيئتها التعليمية، حيث يتعلم الطلبة كيفية توظيف الموارد الطبيعية بطريقة مبتكرة لحل المشكلات البيئية. كما يُعد مشروع كاكوما في كينيا نموذجًا لتوظيف التعليم الرقمي والتعلم عن بُعد لربط الأطفال في مخيمات اللاجئين بمعلمين ومتطوعين من مختلف دول العالم، وهو ما أتاح فرص تعلم لم تكن ممكنة من قبل. ومن بين النماذج التي عرضها التقرير، برزت عدة مبادرات ركزت بشكل مباشر على الذكاء الاصطناعي والتقنيات المرتبطة به باعتبارها من أهم مهارات الثورة الصناعية الرابعة 4.0. فعلى سبيل المثال، يمثل برنامج مجتمع المعرفة (The Knowledge Society) في كندا نموذجًا متقدمًا حيث يُعرض الطلاب على أحدث الابتكارات مثل البلوك تشين والروبوتات والذكاء الاصطناعي، ويُكلفون بمهام واقعية بالشراكة مع شركات كبرى مثل مايكروسوفت (Microsoft)، وقد طلبت الشركة من الطلاب تقييم مدرسة الذكاء الاصطناعي الخاصة بها وتقديم تغذية راجعة استراتيجية، ما أتاح للطلاب ممارسة التفكير النقدي وتطبيق معارفهم التقنية على تحديات حقيقية.
وفي السياق ذاته، جاء نموذج تيكي ستيم (TEKY STEAM) في فيتنام ليؤكد على ضرورة إدماج الذكاء الاصطناعي في التعليم منذ الصغر، حيث يقدم للأطفال برامج عملية في البرمجة والروبوتات وتصميم المواقع والوسائط المتعددة. كما أطلق مسابقة وطنية في البرمجة بعنوان ماراثون “ماينكرافت” للبرمجة (Minecraft Hackathon) تجمع أكثر من ألف طالب من مختلف أنحاء البلاد. وإضافة إلى ذلك، طرح البرنامج أول دورة متخصصة في الواقع الافتراضي (Virtual Reality) موجهة للشباب من عمر 13 إلى 18 عامًا، مما يهيئهم لاكتساب فهم عميق للتقنيات الرقمية الحديثة والمرتبطة مباشرة بالذكاء الاصطناعي.
وفي السياق العُماني، تتقاطع هذه الرؤى العالمية بوضوح مع مرتكزات رؤية عُمان 2040، التي جعلت من التعليم والتعلّم والبحث العلمي والقدرات الوطنية أولوية استراتيجية ومحورًا أساسيًا للتحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار. فقد نصّت اخبار عمان على إعداد مواطن معتز بهويته، منفتح على العالم، قادر على المنافسة إقليميًا ودوليًا، بما يعكس التلاقي مع محور المواطنة العالمية الذي يطرحه إطار التعليم 4.0. كما أن توجه اخبار عمان نحو التحول الرقمي وبناء اقتصاد رقمي متكامل يتناغم مع محور المهارات التقنية والرقمية الوارد في التقرير. الجدير بالذكر أن التقرير أشار أيضًا إلى المدرسة البريطانية في مسقط كأحد النماذج الرائدة التي تعكس قدرة البيئة العُمانية على استيعاب الابتكارات التعليمية وتوطينها بما يخدم احتياجات المجتمع المحلي. اعتمدت المدرسة نهج التعلم بالاكتشاف القائم على دمج المواد في مشروعات تعاونية تركز على التجربة وتطبيق المعرفة في الواقع، بما يعزز مهارات الطلاب في البحث والإقناع وحل المشكلات. كما تستفيد المدرسة من شراكاتها مع مؤسسات الأعمال المحلية لربط التعليم بواقع السوق. وتشير مؤشرات الأداء إلى أن أكثر من 97% من أولياء الأمور راضون عن تجربة أبنائهم التعليمية، وأن 94% من طلاب المدرسة حققوا المستوى المتوقع في عام 2018–2019 في الفهم القرائي (مقارنة بـ79% في المملكة المتحدة). وإلى جانب ذلك، تبني المدرسة روابط قوية مع وزارة التربية والتعليم العُمانية لنقل خبراتها في دمج التعلم بالاكتشاف ضمن المناهج الوطنية. (المنتدى الاقتصادي العالمي، 2020، ص. 23)
أما الاستراتيجية الوطنية للتعليم 2040 فقد أكدت على نظام تعليمي عالٍ يتسم بالجودة، والشراكة المجتمعية، وتعزيز القيم والمهارات المستقبلية. وهي بذلك تتناغم مع التحولات الثمانية التي حدّدها المنتدى الاقتصادي العالمي، إذ تسعى إلى بناء منظومة تعليمية مرنة ودامجة، تركز على الإبداع والابتكار والبحث وتوظف التقنيات الحديثة في التعليم، بما يتيح تعلّمًا شخصيًا وذاتيًا، ويؤسس لثقافة التعلّم مدى الحياة. كما تولي الاستراتيجية اهتمامًا خاصًا بدمج الطلبة من مختلف الخلفيات والقدرات، انسجامًا مع مفهوم التعليم الشامل الذي يُعد من أبرز ملامح مدارس المستقبل.
إنّ الاستشراف الواقعي لمستقبل التعليم في سلطنة عُمان يقتضي النظر إلى هذه التحولات بوصفها خارطة طريق، حيث يُمكن دمجها في المناهج الوطنية، وتبني نماذج تجريبية لمدارس المستقبل تستند إلى تقنيات التعليم الرقمي والتعلم القائم على المشروعات، مع تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، لتوفير بيئات تعليمية مبتكرة. كما يتطلب الأمر إعداد المعلمين ليكونوا ميسّرين وداعمين للتعلم بدلاً من ناقلين للمعرفة، وذلك بما يتلاءم مع طبيعة التعليم 4.0.
ومن هُنا فإنّ بناء مدارس المستقبل لا يقتصر على البنية الأساسية الذكية أو إدخال التقنيات في الصفوف فحسب، بل هو تحول شامل في فلسفة التعليم، يجعل الطالب محور العملية التعليمية، ويغرس فيه قيم المسؤولية العالمية وحب الاستطلاع والقدرة على الابتكار والتكيّف. ومن خلال مواءمة هذه الرؤى مع الاستراتيجية الوطنية للتعليم 2040 ورؤية عُمان 2040، فإن سلطنة عُمان تضع نفسها على مسار استشرافي يضمن تأهيل أجيال قادرة على قيادة التنمية المستدامة، والمساهمة الفاعلة في الاقتصاد المعرفي العالمي. وبذلك يمكن القول إن مدارس المستقبل ليست مجرد حلم بعيد، بل هي مشروع وطني استراتيجي، يقوم على إدماج أفضل الممارسات العالمية في سياق محلي متجذر في الهوية العُمانية، ومنفتح على متطلبات الثورة الصناعية الرابعة 4.0.
** كاتبة وباحثة تربوية