سلطان بن محمد القاسمي
تتسم حياتنا بالاستمرارية والتَّجدد، وقد اعتدنا أن نُستحث دائمًا إلى التطلع لكل جديد، وأن نغذّي أرواحنا بالتفاؤل، لأنه لا قرار للنفس إلا بالأمل، ولا عيش بلا رجاء، واليأس ليس من شيم المُؤمنين. لكن في خضم هذا الأفق المشرق، هناك نور آخر لا يقل أهمية عن التفاؤل وهو الرضا؛ ذلك الشعور العميق الذي يرسّخ الإيمان بالله، فيجعل المرء ثابتًا أمام ما يواجهه من شدائد وتحديات.
ذات يوم حدثني شاب في مُقتبل العمر يسألني بصوت متعب: هل أستطيع أن أستقيل من عملي وأنتقل مباشرة إلى جهة أخرى؟ سألته: ولماذا تفكر بهذه العجلة؟ ألا يمكنك أن تأخذ إجازة قصيرة لتستريح؟ فردّ بحزن: حتى لو أخذت إجازة، فإنني سأعود إلى نفس البيئة المرهقة والضغوط المتراكمة، لقد صار عملي يرهقني حتى أصبت بارتفاع الضغط وأنا ما زلت في بداياتي، وزرت استشاري أعصاب فأكد لي بوضوح أنَّ عليّ أن أغيّر مساري نحو وظيفة إدارية أقل توترًا، فأنا الآن أتناول الأدوية المهدئة وأشعر أنني وصلت إلى مرحلة الاحتراق النفسي والمهني.
تأمَّلتُ حديثه مليًا، فأدركت أن هذا “الجديد” الذي يعيشه ليس ما يتمناه؛ بل هو أشبه بواقع يفرض نفسه على كثير من شباب اليوم. فالأعباء الوظيفية لم تعد مجرد ساعات عمل؛ بل امتدت لتغزو الصحة الجسدية والنفسية، وأضحى الموظف يعيش حالة من القلق المستمر، يخشى الغد كما يرهقه اليوم، ويكاد يفتقد لذة الحاضر. هنا تتجلى قيمة الرضا، لا بمعنى الاستسلام أو الرضوخ للألم، وإنما الرضا الذي يفتح باب الوعي، ويقود صاحبه لاتخاذ قرارات حكيمة تحفظ له روحه قبل رزقه.
وقد لا تتوقف القصص عند ذلك الشاب الذي أرهقته الضغوط حتى أفسدت صحته؛ بل ثمة آخر أعرفه كان يروي لي شكواه بصوت متحشرج من التعب. قال لي: “أعطي في عملي بلا حدود، أتحمل المسؤوليات الكبيرة، أنجز المهام الصعبة، وأحاول أن أكون عونًا لفريقي، لكنني لا أجد مقابل ذلك لا تقديرًا ولا دعمًا ولا حتى كلمة شكر بسيطة”. كان يحدثني وكأنَّه يصف حالة استنزاف بطيئة، لا تظهر أعراضها فجأة لكنها تأكل من الداخل حتى يفقد الإنسان لذته في الإنجاز.
تأملت كلماته فرأيت فيها صورة لواقع كثيرين يعيشون بين مطرقة المسؤولية وسندان غياب التقدير. هؤلاء يظنون أن العمل وحده قادر أن يهبهم معنى الحياة، فينسون أنفسهم، ويستنزفون أعمارهم في سبيل غايات قد لا ترد لهم العرفان. وهنا يكمن الخطر؛ فحين يفتقد الإنسان الشعور بالاعتراف بجهده، تتكاثر في داخله مشاعر الإحباط والخذلان، ويصبح النجاح بلا قيمة؛ بل ربما يتحول الإنجاز ذاته إلى عبء.
إنَّ هذا “الجديد” الذي نلقاه في بيئات العمل اليوم ليس جديدًا نحبه أو نتطلع إليه؛ بل هو من تلك الأثقال التي لا نتمناها، لكنه في المقابل فرصة لنتعلم قيمة الموازنة. فالعطاء جميل، لكن الأجمل أن يُقاس بقدر ما يحفظ للإنسان كرامته وصحته وراحته النفسية. وليس المطلوب أن نتوقف عن البذل أو أن نكف عن الإخلاص، ولكن أن نضع لأنفسنا حدودًا تحفظ لنا إنسانيتنا، وأن نتذكر دائمًا أن التقدير الحقيقي ليس ما يُقال لنا بقدر ما نشعر به في قلوبنا ونحن نعمل لوجه الله أولاً وأخيرًا.
وهنا يجب أن نضع قاعدة راسخة في قلوبنا: الرزق كله من عند الله، والإنسان يسعى في الدنيا ويبذل جهده، لكن الله سبحانه وتعالى هو من كتب لكل إنسان رزقه، لا يزيد ولا ينقص. قد يبذل الموظف عمره كله في مكان واحد فلا ينال إلا القليل، بينما يفتح الله لغيره باب رزق من حيث لا يحتسب، وهذا دليل أن المسألة ليست في الجهد وحده؛ بل في بركة الله وتوفيقه. قال تعالى: “وفي السماء رزقكم وما توعدون”، وقال سبحانه: “ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب”. فالإنسان مأمور بالسعي، لكنه مأمور أيضًا أن يطمئن قلبه أن ما كُتب له لن يفوته، وأن الرضا بما قسم الله هو قمة الإيمان.
إن قصص الاحتراق الوظيفي وما يشبهها تذكرنا بأن الحلول ليست مستحيلة. أولها أن نمنح أنفسنا وقتًا للاستراحة، ولو عبر خطوات صغيرة: تحديد ساعات للعمل وأخرى للذات، تعلم قول “لا” حين تُطلب منا مهام فوق طاقتنا، وممارسة أنشطة تبعث على البهجة مثل القراءة، الرياضة، أو قضاء وقت مع العائلة. ثانيها أن نبحث عن بيئة عمل أكثر رحمة وعدلاً، فالله لم يخلقنا لنهلك تحت وطأة وظيفة واحدة؛ بل جعل لنا أبوابًا من الرزق مفتوحة. وثالثها أن نُعيد صياغة مفهوم النجاح، فلا نقيسه بالمنصب أو الراتب وحده؛ بل بالقدرة على أن نحيا حياة متوازنة، مطمئنة، ممتلئة بالمعنى.
إن الجديد الذي لا نتمناه يمكن أن يأتي في صورة تعب، أو مرض، أو ضغط، لكنه يفتح لنا باب الرضا لنعرف أن لله حكمة في كل قدر. الجديد الذي لا نحبه قد يكون جسرًا إلى وعي جديد نتعلم فيه كيف نحافظ على صحتنا، وكيف نرتب أولوياتنا، وكيف نصنع مستقبلًا نعيشه لا يعيشنا. فالحياة ليست مجرد انتظار أيام تتغير، وإنما هي سعي لإحداث التغيير في دواخلنا، حتى نصبح نحن الجديد الذي نبحث عنه.
فلنُعِد التفكير في خطواتنا، ولنقلل من الهدر في أعمارنا، فالمستقبل يُصنع بالوعي والرضا، والعمل والأمل، والتوكل على الله. ومن جعل رضا الله غايته، عاش مطمئنًا مهما تبدلت الأزمنة، وكان له من السكينة ما يعينه على مواجهة رهق الحاضر بطمأنينة الغد.