عادةً لا تخلّف إغلاقات الحكومة الفيدرالية الأميركية أضراراً اقتصادية كبيرة، لكن الإغلاق الذي بدأ، الأربعاء، يبدو أكثر خطورة هذه المرة، خصوصاً مع تهديد الرئيس دونالد ترمب باستخدام الأزمة لإلغاء آلاف الوظائف الحكومية بشكل دائم، في وقت يمر فيه اقتصاد البلاد بظروف هشة أصلاً، وفقاً لوكالة “أسوشيتد برس”.

وحتى الآن، تتعامل الأسواق المالية مع الأزمة بلا مبالاة، معتبرة إياها مجرد فصل جديد من فشل الجمهوريين والديمقراطيين في الاتفاق على الموازنة والحفاظ على عمل الحكومة.

وكتب الخبير الاقتصادي المستقل إد يارديني في مذكرة الخميس: “الجميع يبدو مرتاحاً حيال الإغلاق، باعتبار أن الديمقراطيين والجمهوريين سيتوصلون في النهاية إلى اتفاق وتستمر الحياة كالمعتاد، كما كان الحال في الإغلاقات السابقة”.

وأضاف يارديني: “من الممكن أن يتكرر التاريخ، خصوصاً مع وجود رجل يشتهر بعقد الصفقات في المكتب البيضاوي. لكن بالنظر إلى عمق الفجوة بين الحزبين، فإن هذا الاطمئنان يبدو مفاجئاً”.

تاريخ الإغلاقات

شهدت الولايات المتحدة 21 إغلاقاً حكومياً خلال نصف القرن الماضي، وكان آخرها الأطول، إذ استمر 5 أسابيع بين ديسمبر 2018 ويناير 2019 في عهد إدارة ترمب الأولى. وحتى ذلك الإغلاق بالكاد ترك أثراً يُذكر على أكبر اقتصاد في العالم، فقد قدّر مكتب الميزانية في الكونجرس أنه خفّض الناتج المحلي الإجمالي لعام 2019 بنسبة لا تتجاوز 0.02%.

وعادة ما تكون الآثار الاقتصادية للإغلاقات مؤقتة، إذ يُجبر الموظفون الفيدراليون على إجازة غير مدفوعة ويُؤجل الإنفاق الحكومي طوال فترة الإغلاق، لكن عند انتهائه، يعود الموظفون إلى أعمالهم ويتقاضون رواتبهم بأثر رجعي، كما تُصرف الأموال المؤجلة، ليصبح التأثير شبه متوازن.

وقال سكوت هلفستين، رئيس استراتيجية الاستثمار في شركة “جلوبال إكس”: “الإغلاقات الحكومية فوضوية ومزعجة، لكن لا توجد أدلة على أنها تُحدث أثراً كبيراً على الاقتصاد. عادة ما يُستعاد النشاط المفقود في الربع التالي”.

ولن تتأثر مدفوعات الإعانات الحكومية الأساسية، مثل الضمان الاجتماعي، أو برامج الرعاية الصحية مثل “ميديكير”، بالإغلاق.

وأشار مدير مكتب الميزانية في الكونجرس، فيليب سواجل، إلى أن البيانات المستخلصة من الإغلاقات السابقة أظهرت أن التأثير على الناتج المحلي الإجمالي الأميركي ضئيل، إلا إذا طال أمد الإغلاق. وقال مؤخراً لوكالة “أسوشيتد برس”: “الأثر ليس فورياً، لكن بمرور الوقت يُلحق الإغلاق ضرراً بالاقتصاد”.

غير أن الأضرار قد تكون أكبر هذه المرة، ففي إغلاق 2018-2019، تمكنت بعض الوكالات من الاستمرار لأنها كانت قد حصلت على تمويل مسبق. وهذا لم يحدث الآن، إذ يقدّر مكتب الميزانية أن نحو 750 ألف موظف فيدرالي قد يُجبرون على التوقف المؤقت عن العمل.

كما يدرس ترمب خياراً أكثر صرامة، إذ هدد مكتب الموازنة التابع له هذه المرة بـ”تسريح جماعي” للموظفين الفيدراليين، وليس مجرد إجازة مؤقتة. ولن توقف الموظفين مثل هذه الخطوة فقط، بل ستلغي وظائفهم تماماً، ما يعني مزيداً من الاضطراب لجهاز حكومي شهد بالفعل تقليصاً في عهد ترمب.

وفي وقت سابق الثلاثاء، قال الرئيس الأميركي: “سنقوم بتسريح عدد كبير من الموظفين الذين سيتضررون بشدة، وهم في الغالب من الديمقراطيين”.

الضغط على الديمقراطيين

وكتب توماس رايان من “كابيتال إيكونوميكس” في تعليق أن “من المعقول افتراض أن تهديد ترمب بتسريح جماعي هو مجرد مناورة سياسية للضغط على الديمقراطيين من أجل تمرير التمويل دون شروط”.

لكنه أضاف: “إن نُفّذ (التهديد)، فستكون له تداعيات طويلة الأمد، إذ قد يطيل عملية تقليص حجم الحكومة ويبقي هذا القطاع عبئاً على التوظيف حتى العام المقبل”.

أما رايان سويت، كبير الاقتصاديين في “أوكسفورد إيكونوميكس”، فقد قدّر أن الإغلاق وفقدان الدخل المؤقت للموظفين الفيدراليين يمكن أن يخفض النمو السنوي للاقتصاد الأميركي بنسبة تتراوح بين 0.1 و0.2 نقطة مئوية في الربع الرابع، عن كل أسبوع يستمر فيه الإغلاق. وأوضح أن جزءاً من هذه الخسائر قد يُستعاد بعد إعادة فتح الحكومة.

وكتب سويت: “عادة لا تكون التكاليف الاقتصادية للإغلاقات الحكومية كبيرة، إلا إذا استمرت لأسابيع عدة”.

ويأتي هذا الإغلاق في وقت يواجه فيه سوق العمل بالفعل ضغوطاً، متأثراً باستمرار أسعار الفائدة المرتفعة، وبحملة ترمب لفرض ضرائب على الواردات من معظم دول العالم وعلى منتجات محددة، من النحاس إلى الأفلام الأجنبية.

وأظهرت مراجعات وزارة العمل في وقت سابق من الشهر أن الاقتصاد أضاف 911 ألف وظيفة أقل مما أُعلن سابقاً خلال العام المنتهي في مارس، أي أن متوسط الوظائف الجديدة كان 71 ألفاً شهرياً فقط، لا 147 ألفاً كما ورد أولاً.

ومنذ مارس، تباطأت وتيرة التوظيف أكثر لتصل إلى 53 ألف وظيفة شهرياً. وللمقارنة، فإن الاقتصاد كان يخلق نحو 400 ألف وظيفة شهرياً، خلال طفرة التوظيف بين 2021 و2023 بعد جائحة فيروس كورونا.

إشارات متناقضة

وكان من المقرر صدور تقرير الوظائف لشهر سبتمبر، الجمعة، مع توقعات بزيادة 50 ألف وظيفة جديدة، لكنه تأجل إلى أجل غير مسمى بسبب الإغلاق.

ويقدم الاقتصاد إشارات متناقضة، ومع ذلك، فقد سجّل الناتج المحلي الإجمالي نمواً قوياً بنسبة 3.8% سنوياً من أبريل حتى يونيو، بعد انكماش بنسبة 0.6% في الأشهر الثلاثة الأولى من العام، لكن من غير الواضح ما إذا كان هذا النمو سيستمر أو يعيد تنشيط التوظيف.

وقال مايكل ليندن، الزميل البارز في “مركز واشنطن للنمو العادل”: “الاقتصاد يقف فعلاً على حافة السكين. البيانات الاقتصادية تُرسل إشارات متناقضة. كان نمو الربع الثاني قوياً، لكن يصعب تحديد ما إذا كان مجرد انتعاش مؤقت بعد ضعف شديد في الربع الأول. ما نعرفه هو أن وتيرة خلق الوظائف تباطأت، نمو الأجور في تراجع، والطبقة الوسطى تشعر بالضيق المتزايد”.

شاركها.